عدالة غائبة... 3 سنوات على انفجار مرفأ بيروت

04 اغسطس 2023
يطالب أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت بالعدالة (حسام شبارو/ الأناضول)
+ الخط -

مرت ثلاث سنوات بعذاباتها وقهرها ومآسيها، وما زال أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت يتذوّقون غياب العدالة، فمنذ 4 أغسطس/ آب 2020، يشعر ذوو الضحايا بأن عقارب ساعاتهم توقفت عند السادسة وسبع دقائق، هذا التوقيت الذي أهدرت فيه أرواح أحبّة وأقارب وأصدقاء.
لم يحرك الانفجار ساكناً لدى الدولة اللبنانية رغم التحركات الاحتجاجية والتظاهرات المتواصلة لأهالي الضحايا، وما رافقها من مداهمة بيوت سياسيين ومسؤولين مشكوك بتورّطهم، أو تواطؤهم في عرقلة تنفيذ القرارات القضائية. وذكّرت "جمعية أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت" في بيان، بـ"235 ضحية، وآلاف المصابين والمعوقين من جراء التفجير"، مؤكدةً أنه "لا عزاء للأهالي، ولا راحة لأرواح الضحايا إلا بمعرفة الحقيقة، والمحاسبة. اخترنا تنظيم مسيرتنا هذه السنة تحت شعار: من أجل العدالة والمحاسبة… مستمرون". بغصّةٍ وحسرة، تقول هيام قعدان، والدة الشاب أحمد إبراهيم قعدان، لـ"العربي الجديد": "خسرتُ ابني الوحيد قبل عيد ميلاده الثلاثين بستة أيام، خسرته بسبب هذه السلطة الفاسدة. يومها اتصلت به عند الرابعة عصراً، وسألته عن مكانه، فأجابني أنه في البقاع ونازل. لكنه نزل إلى حتفه، إذ وقع الانفجار عند وصوله إلى شارع الجمّيزة، فانهارت عليه جدران إحدى البنايات، وفارق الحياة داخل سيارته التي تدمرت بالكامل، والتي كان يقسّط ثمنها عبر قرضٍ مصرفي، تابعنا دفع مستحقاته بعد وفاته".
كان أحمد الشقيق الوحيد لثلاث فتيات، وقد تخرّج في تخصّص إدارة الأعمال، غير أنّه لم يعمل يوماً باختصاصه، تقول والدته: "عمل محاسباً في إحدى الشركات، ثم ترك العمل بسبب انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 وجائحة كورونا. استأجر لوحة عمومية، وبدأ العمل سائق تاكسي ريثما يتلقى جواباً بشأن الهجرة إلى كندا. وصلت الموافقة على أوراقه، وكان من المفترض أن يهاجر في 24 أغسطس 2020، غير أنّه غادر الحياة. درّسناه وتعبنا عليه، لكنّه لم يجد عملاً ولا حياة في هذه البلاد. يا ليته كان متزوجاً ورُزق بولد، كنت شممتُ فيه رائحة أحمد. خسرتُ سندي الوحيد، وخسرتُ معه كل شيء".
تؤكد هيام أنها تطالب منذ اليوم الأول للفاجعة بالحقيقة والعدالة ومحاسبة المجرمين والمتورطين. وتضيف: "من حقنا أن نعرف مَن استقدم نترات الأمونيوم إلى المرفأ، ومَن تاجر بها، ومَن فجّرها وقتل أولادنا. لن نسكت ولن نملّ حتى معرفة هوية القاتل، هذا حقنا كأهالي الضحايا. تدمرت البلاد، وخسرنا أولادنا، ولم نرَ أي محاسبة، أو حتى تسمية متّهمين، إنّما فقط إفراج عن الموقوفين. على الشعب كله المطالبة بالعدالة والقصاص من المجرمين، وسيبقى صوتنا عالياً حتى كشف الحقيقة، وأتمنى أن يحترقوا في نار جهنّم كما تحترق قلوبنا كل يوم على أولادنا".

فقدت ريما شقيقها أمين الزاهد، وتقول: "كان موظّفاً في إحدى شركات المرفأ، وكان في عمر الأربعين عندما ذهب ضحية الانفجار. كان حلمه أن يرى ابنه ضابطاً، وأن تحمل ابنته شهادة الدكتوراه. كان خلوقاً محترماً، ومحباً لعمله، وقد أثنى رفاقه على نزاهته وأخلاقه. لم يكن يغلق هاتفه أبداً بسبب حساسية وظيفته، وكان يترك منزله وعائلته إلى العمل في أي وقت لحل أي مشكلة طارئة. كان أمين بمثابة والدي، وكذلك والد لأبنائي الثلاثة كوني مطلقة. خسرنا الشخص الذي كنّا نعتبره قبطان سفينتنا، وعند حدوث أي مشكلة نلجأ إليه فيحلها لقدرته على تحمّل المسؤولية، واستيعاب الأشخاص والمواقف".
وتشير إلى أنّ شقيقها كان ينتابه شعور بالخوف قبل الحادث، وكان يردد دائماً "مش عارفين كيف بدهم يموتونا، بس بدهم يموتونا". وتستعيد رحلة البحث عن شقيقها في المرفأ، وفي المستشفيات على مدار ستة أيام بعد الانفجار، من دون أن تجد له أثراً. "كان يغمرنا أمل أننا سنجد أمين حيّاً، فهو الجبل الذي لا يهتز، وقد عثرنا على ثلاثة أشخاص يشبهونه، ثم أبلغونا بالعثور على جثمانه في مستشفى الزهراء".

أمين الزاهد (العربي الجديد)
الشهيد أمين الزاهد (العربي الجديد)

يداهمها الصمت للحظات، ثم تكرّر طرح الأسئلة: "مَن هو صاحب نترات الأمونيوم؟ مَن الذي كان يخبئها؟ ومَن المستفيد؟ ومَن فجّرها؟ نواجه منظومة همّها الأول التستّر على بعضها كون الجميع متورطاً، فهل يُعقل وقوع انفجار بهذا الحجم في مكان تحرسه أربعة أجهزة أمنية؟ تبيّن أن مرفأ بيروت كان قنبلة موقوتة، وأن ما حصل تفجير وليس انفجاراً. تعرّضنا لكل أشكال الخذلان، فالدولة بكل أجهزتها هي المتهم الحقيقي، وتمّ التهجّم علينا في الشوارع من قبل القوى الأمنية، فكان كبار السن يقعون أرضاً، وتتحطّم صور أبنائهم وأحبائهم، وكأنّ الدولة تمعن في قتلهم للمرة الثانية".

احتجاجات أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت لم تتوقف (حسام شبارو/الأناضول)
احتجاجات أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت لا تتوقف (حسام شبارو/ الأناضول)

تتابع ريما الزاهد: "نكتشف في كل مرة عدوّاً جديداً، وقد أُفرج عن الموقوفين كأنّ شيئاً لم يكن، ومنهم من هرب إلى الخارج، وبعضهم يحاول العودة إلى وظيفته في المرفأ غير آبهين بمئات الضحايا، أو بالأطفال الأيتام. وقاحتهم بلغت درجة إجبار أهالي الضحايا على التوقيع على عدم التعرض للدولة التي لم تمنحنا حقنا في الحقيقة والعدالة، إنّها فعلاً قمة الانهيار. أناشد الشعب اللبناني التوقف عن تقديس الزعماء، فقضية المرفأ قضيتنا جميعاً. أخي أمين لن يعود، لكنّكم ما زلتم أحياء، وعلينا التضامن منعاً لتكرار الحادث، والتمسك بمحاسبة المجرمين".
بدوره، يتحسر عبدو متّى على خسارة ابنه شربل بعد ثلاث سنوات على انضمامه إلى أمن الدولة، يقول: "شربل شهيد الأمن المفقود والدولة الغائبة. كنت أنتظر رؤيته عريساً قبل أن تمتد يد الغدر والإجرام وتسرقه مني". لم يكن دوام شربل في المرفأ في يوم الانفجار، غير أنّه بدّل مع أحد زملائه، فذهب لحتفه بعد احتفاله بعيد ميلاده الثالث والعشرين قبل ستة أيام من الفاجعة.

الضحية محمد طليس (العربي الجديد)
الشهيد محمد طليس (العربي الجديد)

رحل شربل تاركاً غصّة في قلب والده، وحرقة لدى شقيقه وشقيقته. يقول الوالد: "الوجع لا يزال ذاته كما اللحظة الأولى للانفجار. ثلاث سنوات مرت، ونطالب بعدالة الأرض والسماء. يريدوننا أن نيأس ونستسلم لأنهم أبناء الظلام وأَرباب الفساد، لكن ما من مكانٍ للاستسلام في قلوبنا. سنكمل حتى آخر نفس، ولن نقبل بالموت البطيء لقضيتنا. حق بيروت لن يموت، ولبنان لن يموت، وصوت الأهالي سيبقى عالياً، فنحن أصحاب حق، ولن نسمح أن تذهب دماء أولادنا وأرواحهم هدراً، وستبقى ثقتنا كبيرة بالقضاء، وسيبقى إيماننا كبيراً بأنّ جريمة المرفأ يستحيل أن تُطمَس".

الشهيد جواد شيا (العربي الجديد)
الشهيد جواد شيا (العربي الجديد)

تعبّر كريستيان خوري، زوجة الضحية محمد طليس عن حرقتها بتكرار: "قالوا الحزن رح يصغر بعد ما يموت الغالي، تاري عندي عم يكبر ما عم يطلع من بالي". الأم لطفلين بعمر خمس وست سنوات، نجت من الموت بأعجوبة، بينما لم ينج زوجها الأربعيني.
تقول خوري: "كان محمد يعمل في إحدى شركات المرفأ، حيث كنتُ أعمل بدوري. دوامي انتهي عند الخامسة والنصف عصراً، وقد غادرتُ باتجاه حضانة أولادي، ووقع الانفجار بينما نحن في الطريق. في حين كان دوام محمد لغاية الحادية عشرة ليلاً. عند وقوع الانفجار كان أمام باب العنبر مع رفاقه. كان يتوق لمواكبتهما في مراحل نموّهما، ولرؤيتهما يكبران أمام عينيه. لن نيأس، وسنواصل الجهود لإحقاق العدالة مهما كلف الأمر".

قضى الثلاثيني جواد شيا، في شهر أغسطس الذي يحتفي فيه سنوياً بعيد مولده. راح ضحية الانفجار قبل ثلاثة أيام من عيده ليسدل الستار على حياة مليئة بالنشاط والفرح، تاركاً خلفه والدَين مفجوعين، وثلاث شقيقات يتحسّرن على خسارته.

يستذكر والده أجود شيا ابنه جواد قائلاً: "ما إن تخرّج ونال شهادته الجامعية حتى التحق بصفوف الجيش، ويوم وقوع الانفجار كان يؤدي خدمته العسكرية في مرفأ بيروت. كان جواد مهذباً محبوباً من رفاقه وكلّ من عرفه، ولم يتوانَ يوماً عن دعم شقيقاته، وتقديم المساندة لهنّ. كان مقداماً ومعطاءً، دائم الابتسام والحركة، يعشق الحياة، وينشد الطمأنينة والسلام. كان بالفعل جواد حياتنا".

أحمد قعدان (العربي الجديد)
الشهيد أحمد قعدان (العربي الجديد)

يتابع: "يواجه أهالي الضحايا عصابات ومافيات يمعنون في قتل القتيل والسير في جنازته. ارتكب المسؤولون جريمة كبيرة، ومطلبنا الوحيد هو إحقاق العدالة، ومحاسبة المجرمين. سنبقى خلفهم كي ينال كل مسؤول عقابه. إذا مرت هذه القضية من دون حساب، فعلى الوطن السلام".

المساهمون