تبتعد العلاقات العاطفية في الصين اليوم عن الصدى الروحي العميق لحساب العثور على شركاء في هوايات من دون توقع أي التزام، واستبعاد القلق من احتمال عدم حصول تفاهم مع الشريك.
يبدو أن جيل الألفية الثانية في الصين سئم من التسلسل الهرمي الصارم، والمجاملات والالتزامات التي نظمت تقليدياً على مدار عقود العلاقات الأسرية والصداقات في مجتمع اشتراكي. وهم يعتبرون حالياً أن التفاعلات الاجتماعية السطحية وسيلة جيدة لتبسيط علاقاتهم الشخصية.
ويعتبر أنصار هذا الخيار أن العثور على شريك بات مكلفاً، ويتطلب تحمّل مصاعب كثيرة، أما الشريك العابر فيرافق الأوقات الجيدة فقط من دون أي أعباء أو جهود إضافية للحفاظ على العلاقة.
ويرى هؤلاء أن خيار الشريك العابر يقلل من الوقت والاستثمار العاطفي الذي يستغرقه الشبان لمحاربة الوحدة، خاصة في المدن الكبيرة التي لا تمنحهم ترف خوض علاقات معقدة ومتشعبة. ويصف هؤلاء هذه العلاقات بأنها "أكثر من مجرد تعارف، وليست صداقة تماماً".
وتقول لين يانغ، وهي موظفة في شركة محاسبة بمدينة كوانجو (جنوب)، التي قررت أن تخوض تجربة العلاقات العابرة بدلاً من تكوين علاقات صداقة حقيقية، لـ"العربي الجديد": "بدا الأمر مشجعاً بالنسبة لي لأنني أرغب في تخفيف أعباء نمط الحياة الصناعية ذات الإيقاع السريع. في السابق كانت علاقات الصداقة ملزمة في ما يتعلق بالمجاملات الاجتماعية والمشاركة في مناسبات خاصة ورد الزيارات وتبادل الهدايا، لكنني اكتشفت أخيراً أن جميع هذه المظاهر يمكن أن تتلاشى بمجرد حصول اختلاف بسيط وجهات النظر، أو سوء فهم بين الأصدقاء، ما يجعل الشخص يعاني لعدة أشهر حين يتذكر أن ما فعله تجاه الشخص الآخر هدر للوقت والجهد والأعصاب".
تتابع: "أنا اليوم أقل التزاماً وارتباطاً بالأشخاص حولي، وأتعامل معهم باعتبارهم مجرد زملاء عابرين. أتجاذب أطراف الحديث معهم في العمل على هامش وجبة طعام أو مشروب، ونتبادل الأخبار والتجارب الشخصية، لكن بمجرد مغادرة مكان العمل تنتهي العلاقة التي يمكن القول إنها وسيلة للترويح عن النفس والفضفضة أو الثرثرة النسوية".
من جهته، يقول لونغ شين، وهو شاب يعمل في مجال الدعاية والإعلان في العاصمة بكين، لـ"العربي الجديد": "يمكن أن أعيش من دون زوجة أو صديقة، لكن لا أستطيع أن أتخلى عن فكرة وجود رفقاء يشاركونني بعض الاهتمامات".
وعن طبيعة هؤلاء الرفقاء، يوضح لونغ أنهم "أشخاص أقل من أصدقاء وأكثر من معارف يفهمون حدود العلاقة وطبيعتها، ويحافظون على هامش محدد بصرف النظر عن مصالحهم الخاصة، كما يحترمون الحياة الخاصة بكلّ منهم من دون أي تدخل أو تجاوز".
وعن المواضيع المتبادلة، يقول: "ليس هناك مواضيع محددة، فهؤلاء الرفاق متاحون للدردشة في أوقات الاستراحة أثناء العمل، وأقطع الاتصال بهم فور مغادرة المكان، فكل واحد منهم يعود إلى حياته الخاصة المنفصلة عن الآخرين".
ويعلّق أستاذ الدراسات الاجتماعية في جامعة صن يات سن، وي لي فنغ، على الظاهرة بالقول لـ"العربي الجديد": "أصبح اختيار رفقاء عابرين وسيلة شائعة بين الشباب لتكوين علاقات اجتماعية سريعة، وهو بديل لعلاقات أكثر حميمية، ويظهر خصوصاً في أماكن العمل والدراسة من خلال مشاركة الرفاق الهوايات والأذواق والتفضيلات نفسها، ما يفضي إلى رفقة دقيقة ضمن بيئة محددة. ويتكرر الأمر ذاته بين طلاب تنشأ بينهم علاقات منفعة متبادلة تهدف إلى توفير الدعم المعنوي والمعرفي، خصوصاً في فترة مراجعة الاختبارات النهائية".
ويعزو وي الظاهرة إلى الضغوط التي يواجهها الشباب في ميادين عدة أبرزها العمل والدراسة. ويقول: "يفضل شباب كثيرون العلاقات العابرة التي لا تلزمهم بأعباء، ويشمل ذلك مستوى العلاقة بين الجنسين التي ترتكز على تفاهم مسبق بأن الغرض من العلاقة هو المؤانسة وتبادل الآراء والأفكار والمشاعر أيضاً، وأنها لن تؤدي إلى أي ارتباط أو تتوّج بزواج".
وعن خطورة هذا النوع من العلاقات العابرة، يقول وي لي فنغ لـ"العربي الجديد": "نلمس ذلك بارتفاع معدلات العنوسة وعزوف الشباب عن الزواج، ما يضعنا أمام مجتمع وحداني بعيد عن فكرة الشراكة التي تدعو إليها القيم الاشتراكية".
ويرى خبراء أن الصعود الاستثنائي لعيش الأشخاص منفردين لا يعني بالضرورة الأنانية أو انعدام المسؤولية أو الافتقار إلى القدرة على المشاركة، ويفسرون العزوبية السائدة بأنها قد تكون مدفوعة برغبة في تحقيق الذات بعيداً عن مؤسسة الزواج وأنماط الحياة التقليدية.
وبحسب أحدث نشرة لمركز الإحصاء الوطني الصيني، بلغ عدد الأشخاص غير المتزوجين الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و49 سنة، أكثر من 134 مليوناً في نهاية عام 2020.
وفي حديث سابق لـ"العربي الجديد"، قالت الباحثة الاجتماعية شو شيا، إن "خيار البقاء أعزب هو نتاج ظروف محيطة تجعل الشباب يختارون أسلوب الحياة المنفرد، مع عدم إهمال حالة عدم المساواة بين الجنسين، سواء في مكان العمل أو داخل الأسرة، الأمر الذي يدفع الشابات إلى الإحجام عن الزواج، أو إلى تأخير قرار الزواج".
ورأى خبراء آخرون أن "قسماً كبيراً من المجتمع الصيني ينظر إلى الزواج من خلال منظور اقتصادي، وتهيمن الحسابات المرتبطة بمستوى المعيشة ووفرة الموارد عليه، فضلاً عن المخاوف بشأن الأزمة الديمغرافية التي تعانيها البلاد".
ويتحدث وي أيضاً عن أن "الأخطر أن تصبح علاقة الشباب بأهلهم قائمة على المصلحة والمنفعة المتبادلة، وهو ما لاحظناه من خلال اشتراط شباب غادروا المدن الصناعية وعادوا إلى مسقط رأسهم، أن يتلقوا أجوراً مادية لقاء رعايتهم آباءهم وأمهاتهم. وهذا مؤشر خطير على هدم القيم التي ميّزت المجتمع الصيني على امتداد قرون".
ويقول وي إن "السلطات المعنية يجب أن تتنبه إلى هذه الظاهرة الخطرة والشرخ الاجتماعي الذي تسبّبه، فتحلل الشباب من أعباء العلاقات الاجتماعية تحت وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة ونمط الحياة السريع، مؤشر إلى سلوك غير صحي يتناقض مع الطبيعة البشرية التي تأنس الجوار، وحسن المعشر والشراكة الاجتماعية".
يتابع: "قد يفاقم الاستمرار في رسم السياسات والخطط الاقتصادية من دون الأخذ في الاعتبار التداعيات والتأثيرات الناجمة عنها، خصوصاً تلك التي تمس شريحة الشباب، الأزمة وصولاً إلى خلق مجتمع مفرغ من العواطف والمشاعر الإنسانية".