يستلزم الوصول إلى المنزل عبور درج "شيفرا"، والمنزل مشيد منذ قبل النكبة، ويتميز بطرازه المعماري القديم، وخصوصاً الأقواس التي تفصل غرفة الضيوف عن غرفة المكتب. يستقبل الأشهب، الذي ولد في مدينة الخليل عام 1922، ضيوفه بابتسامة عريضة، ويقبل كثيرون على زيارته، فهو ليس مجرد فلسطيني عاش 100 سنة، بل مناضل مشتبك مع قضية وطنه، فخور بنضاله منذ الانتفاضة الأولى في عام 1936 خلال فترة الانتداب البريطاني، وفخور كذلك بمشاركته في تأسيس حركة العمال الفلسطينية قبل النكبة، وهو الأمر الذي يحب الحديث عنه.
تجعل قصته البيت مزاراً للصحافيين والباحثين باعتباره شاهداً على القرن الأخير كله. لكن الرجل صاحب الجسد النحيل يرهقه الحديث المطول رغم قوة ذاكرته، ولا يزال يستقي من ذكريات الماضي الطاقة لتجديد إيمانه بعدالة القضية الفلسطينية، ويؤكد أنه كمناضل لا يمكنه قبول فكرة الاستسلام.
ليس سهلاً تلخيص مسيرة نضاله السياسي، فهو أسير سابق، وقد ألف كتابين، هما "تذكرات عودة الأشهب.. صفحات من الذاكرة الفلسطينية" الصادر عن جامعة بيرزيت في مارس/آذار 1999، و"اليسار العربي" بالاشتراك مع شقيقه نعيم الأشهب، وله باع في النضال الفلسطيني، إذ اعتقل عدة مرات، واستشهد شقيقه الأكبر في معركة على جبال الخليل سميت "بجورة بحلص".
ولد عودة الأشهب لعائلة كثيرة الأولاد، ضمت أربع شقيقات وأربعة أشقاء لم يبق منهم على قيد الحياة غير شقيقه نعيم (94 سنة) والذي يعيش في براغ. تزوج حين بلغ 23 سنة، وأنجب ثلاث بنات وابنه عدنان، وتوفيت زوجته مريم في عام 2004، كما توفيت ابنته البكر شادية، وهو يعيش حالياً مع ابنه.
يعتبر نفسه شيوعياً فلسطينياً، وهو يعشق الخليل، والحرم الإبراهيمي القريب من المنزل الذي ولد فيه في قلعة بيت الأشهب، وخلال مزاولة عمله في مطبعة الاتحاد بحيفا، قرأ كل الكتب التي كانت تتاح له، وقد تنقل بين الخليل والقدس في طفولته، وبعد اعتقاله أطلق سراحه من مدينة الناصرة، ليبقى في حيفا، ولم يعد إلى الخليل التي كانت تحت الحكم الأردني.
مثلَ فلسطين في مؤتمرات عدة كعضو في "عصبة التحرر الوطني"، وهي حزب تأسس في فترة الانتداب البريطاني في أربعينيات القرن الماضي، وانشق عنه "الحزب الشيوعي" قبل النكبة، وتأسست جريدة الاتحاد في سنة 1944، وكانت حال لسان عصبة التحرر الوطني، وكان على رأسها إميل توما، وتوفيق طوبي، وفؤاد نصار، وإميل حبيبي.
طارد الاستعمار البريطاني الأشهب، واعتقله في بداية الأربعينات، يقول: "في فترة الإنكليز كان بيت جاسر في بيت لحم، معتقلا للسياسيين. اعتقلوني سنة هناك، وبعدها نقلوني إلى قرية المزرعة، حيث كان يوجد أربعة معتقلات، أحدها للألمان، والآخر للطليان، ومعتقل للعرب الذين يعملون لدى الألمان والطليان، والرابع للوطنيين والشيوعيين العرب. في الكامب (المعتقل) كانت الزيارة صعبة على والدتي التي كانت تعيش في الخليل، أما السنة التي اعتقلت فيها في بيت جاسر، فكان المكان قريباً، وكانوا يأتون لزيارتي بسهولة".
حارب الأشهب الاستعمار البريطاني، وانضم إلى الثوار. يقول: "اعتقلوني لأنني كنت أناضل ضدهم، وأشارك بالمظاهرات، ضربنا (القشلة) وهو مركز الشرطة في القدس، فطاردونا، وأطلقوا الرصاص في الهواء. كانوا يضربون الناس بالعصي، وبعد ثورة 1936، وحتى 1939، صار الإنكليز يعاملون العرب بطريقة سيئة، وكانوا يدافعون عن اليهود حتى يكسبوهم، لذلك اعتبر العرب أن اليهود والإنكليز أعداءهم، وكانوا يطلقون الرصاص على الأحياء اليهودية في القدس، مثل حي المنتفيوري".
بعد أن أفرج عنه في يونيو/ حزيران 1949، غادر الأشهب الناصرة للعيش في حيفا، واعتقله الجيش المصري من الخليل، ونقله من غزة إلى معتقل في سيناء. بعدها أقيمت دولة إسرائيل، ووفق اتفاقية وقف إطلاق النار، تم نقل الأسرى من سيناء إلى سجن بئر السبع، ثم تم نقلهم إلى معتقل في قرية قطرة بجانب مدينة "رحوفوت" حالياً، وبعدها إلى معتقل في قرية سيدنا، وهي مدينة "هرتسليا" حالياً، ثم إلى معتقل الجليل، وهناك قام بزيارتهم توفيق طوبي وإميل حبيبي.
بعدها تم نقلهم مجدداً إلى معتقل "صرفند" بين يافا والرملة، وفي أوائل مايو/ أيار 1949، تم نقلهم إلى الناصرة، وهناك أفرج عنهم في الشهر التالي.
لم يحضر عودة الأشهب عمليات التطهير العرقي خلال النكبة، إذ كان معتقلاً. يقول: "خرجت من المعتقل، وجئت إلى حيفا. كانت لدي إمكانية العيش في الخليل، لكن الحكم الأردني لم يكن يسمح لي بالإقامة هناك، واعتقلوني مرتين، وضربوني. كان في حيفا وقتها مقر حزب التحرر الوطني، ومركزه مقام في درج الموارنة. قالوا لي لا تغادر حيفا، فقررت البقاء".
قبل الانتقال إلى حي عباس، سكن الأشهب في حي وادي النسناس، قريباً من مطبعة الاتحاد التي عمل بها أكثر من 36 عاماً منذ 1951 حتى تقاعده في سنة 1987.
علّم الأشهب نفسه، إذ درس بالخليل حتى الصف الثالث الابتدائي، ثم بدأ العمل في حانوت للخضر في القدس، بسبب ضائقة مادية للعائلة. ويروي: "اشتغلت أجيراً في القدس، عند سليمان المتولي في باب الخليل مقابل القلعة، وكنت أتولى توصيل الحاجيات إلى منازل الزبائن على بسكليت (دراجة هوائية)، وبحثت أين يمكنني مواصلة التعلم، وأصبحت أذهب إلى مدرسة المسجد الأقصى في المساء، وكانوا يدرسون فيها الأطفال بالمجان. مرة قال لي الأستاذ اقرأ، فقرأت، فقال: كيف تدعي أنك جاهل؟".
أهم إنجازاته التي يفخر بها هي تأسيس الحركة العمالية في سنة 1938، إذ كان أحد أعمدتها مع المناضل فؤاد نصار. "عندما اندلعت الحرب، قرر اليسار إنشاء حركة عمال، فاجتمعنا في يافا سنة 1938، ونشأت الحركة العمالية، وكان قائدها سليم القاسم، ولاحقاً انتشرت فروعها، وسميناها مؤتمر العمال العرب، وكنت أحد سكرتيرين للمؤتمر، كان فؤاد نصار يدير اللجنة المركزية في الشمال، وكنت أديرها في الجنوب".
ويضيف: "فلسطين لم تعرف الاستقلال. استعمرها الأتراك، وبعدهم الإنكليز، وحالياً إسرائيل. في مقتبل حياتي شعرت أنني يجب أن ألعب دوراً مؤثراً. انتسبت للحزب الشيوعي الفلسطيني، ورغم أنه كان ممنوعاً على الإنكليز اعتقال نشطائه، لكنهم اعتقلونا. أخلصت لشعبي على الرغم من تهديد الاستعمار. عندما كنت معتقلاً في بيت جاسر، حاول جندي بريطاني أن يقنعني بالهرب من المعتقل، كان يريدني أن أهرب كي يطلق علي الرصاص".
يعيش الأشهب في انتظار إقامة الدولة الفلسطينية، ويقول: "منظمة التحرير معترف بها دولياً، ولها ممثل في الأمم المتحدة، يمكنها أن تقرر ذلك. تجب إتاحة القرار لإقامة الدولة الفلسطينية، وهذا ممكن بضغط الدول العربية. إذا وقفت الدول العربية موحدة مع بعضها للمطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية فسيتحقق ذلك".
سألناه عن سر تمتعه بالصحة رغم سنه، فقال: "هناك مثل شعبي يقول (الإنسان حكيم نفسه). أنا لم أقترب من التدخين أو الكحول، وأتناول الطعام الصحي فقط، وإذا كان غير متوفر أنتظر، كما أنني أحب الناس، ولا أؤذي أحداً".