مرت عشرات الفيضانات على قريتنا الصغيرة الواقعة على الضفة الغربية للنيل نواحي شندي من دون خسائر تُذكر، غير أنها كادت أن تنمحي من الخريطة إبان فيضان 1988 بسبب المشروع الزراعي الذي أنشئ في أواخر سبعينيات القرن الماضي على أرض الحوض الفيضي بقنواته الطبيعية والصناعية، ومحابس مائه.
انكسرت عامئذٍ قناة الري الرئيسية بالمشروع، لتنفلت المياه مُحدثة خسائر مادية جسيمة أدت إلى إغراق الزرع ليضيع حصاد العام.
أعادت الحكاية إلى الذاكرة ما حدث لمنطقة المناقل بوسط السودان هذا الخريف لذات السبب، فقد غرقت عشرات القرى من جراء انكسار قنوات الري في امتداد مشروع الجزيرة والمناقل الذي أنشئ ما بين عامي 1958 و1962.
وحول القنوات الواقية التي نسميها بـ "الجسور"، كتب الأديب السوداني العالمي الطيب صالح: "كانوا يشقّون قنوات على جانبي النيل على طول امتداده في ذلك الإقليم. وكانت لذلك فائدتان. حين يفيض النيل يفتحون تلك القنوات فيسيل النيل على الضفتين، فتمتص الأرض الظمأى فائض الماء من النهر، ولا يُحدث الخراب والدمار اللذين يحدثهما إذا لم يجد متنفساً. والفائدة الثانية هي أن ماء الفيضان يصل إلى أماكن لا يصلها عادة، فتكون زراعات ومراعي أغنام، وغابات طلح وسيال وغير ذلك، كان يثبت الأرض الرملية، ويقي من رياح السموم، ويبسط الظل على عدوتي النيل". وحدثنا كبار السن والمتداول من الأدب الشعبي عن فيضانات 1910 و1946، ولعل الدروس المستفادة منها قد قضت بشق تلك القنوات الاحترازية.
في هذا العام تضخمت الأرقام، وقد غطى الفيضان 12 ولاية من ولايات السودان الـ 18، وغرقت عشرات القرى، بعضها ما زال محاصراً بالمياه، وبلغ عدد الضحايا 98 قتيلاً، وقد يزيد من جراء الإصابات (لا تتوفر أرقام دقيقة). كما تهدّمت آلاف المنازل، وخلّفت الكارثة مئات الأسر في العراء، وسط إحصائية تقول إن نسبة الفقر بلغت 65 في المائة. ونتيجة لانجراف آلاف الهكتارات من المزارع يتهدد الأمن الغذائي جموع السكان. وينذر بنفوق مئات الحيوانات، وتهدم المرافق الصحية بكارثة بيئية وصحية، في ظل أداء ضعيف للجهات المعنية بالأمر.
وتُعرّف منظمة الصحة العالمية الكارثة بأنها "أي حدث يتسبب في حدوث ضرر، أو اضطراب بيئي، أو خسارة في الأرواح، أو تدهور الصحة والخدمات الصحية على نطاق واسع، وهو ما يكفي لتبرير استجابة غير عادية من خارج المجتمع أو المنطقة المتضررة".
أما الخطر البيئي الأكبر لكارثة هذا الفيضان فيكمن في اختلاط المخلفات السامة من سيانيد (أملاح حمض سيانيد الهيدروجين) وزئبق وغيرها من المواد الكيميائية المستخدمة في التعدين بمياه الفيضانات والسيول، ويتهم النشاط التعديني بمفاقمة الكارثة إثر التدخلات في الخريطة الكنتورية من خلال عمليات الحفر وردم مجاري الأودية والخيران، ما تسبب في انجراف التربة وزيادة حدة السيول.
ويبقى السؤال.. لماذا لا تكون الكارثة دافعاً للمدارسة واستنباط الحلول؟
(متخصص في شؤون البيئة)