منذ بداية شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تنشط البلديات والجمعيات والوجوه الاجتماعية والفنيّة في لبنان لرفع أشجار الميلاد وتجهيز مغارة العيد وتزيين الشوارع والأسواق وواجهات المحال بما أمكن، في محاولة لإدخال الفرحة إلى القلوب بحلول عيد الميلاد، وإن بدت الأجواء شاحبة.
الواقع المعيشي الصعب أكثر حضوراً والبهجة مفقودة. حتى أن التيار الكهربائي غير متوفر لإضاءة الشجرة. مع ذلك، يُعرب مواطنون عن إيمانٍ عميقٍ بولادة لبنان من جديد، وأمل بأن يجسّد الميلاد انبعاثاً للوطن علهم ينعمون بحياةٍ كريمة بعيداً عن البؤس والحرمان.
تقول هيام، التي تتحسّر على حالها في ظل أزمة اقتصاديّة قلبت الموازين وفاقمت الظروف المأساويّة: "لا شك أنّ ارتفاع الأسعار بشكلٍ جنونيّ وتدهور القيمة الشرائيّة انعكس على جميع اللبنانيّين والمقيمين، وأفقدنا نكهة العيد. كنّا سابقاً نبدأ بالتحضيرات قبل شهرٍ من عيد الميلاد، إن لناحية المغارة والشجرة أو لناحية مأكولات وحلويات العيد التقليديّة، بينما اليوم بتنا نختصر الكثير".
وتتحدث عن أسعارٍ خياليّة للشجرة والزينة والمغارة تقارب 15 مليون ليرة لبنانيّة (نحو 333 دولاراً أميركياً)، مشيرة إلى أنها ما زالت تحتفظ بالزينة القديمة، هي التي اعتادت تغييرالشجرة والزينة والمغارة كلّ عام أو عامين ومواكبة الموضة والتقنيات الحديثة التي تتجلى في الإضاءة وعناصر متحرّكة وخراف أقرب إلى الواقع وغير ذلك "حتّى أنّ الأسواق وواجهات المحال لم تعد ترتدي زينة الميلاد كما كانت قبل الأزمة المعيشيّة، وأصبحت تكتفي بالقليل والبسيط منها".
وتستذكر هيام كيف كانوا يحضّرون حبشة كبيرة للعيد ولحوماً على أنواعها والعديد من الحلويات، وتأسف لأنهم يضطرون اليوم إلى الاكتفاء بأصناف معدودة، وتقول: "نلهث خلف الأرخص. لم نعد نكترث لغلاف الشوكولاتة المكلف على سبيل المثال، ولا للأصناف المرتبطة بالعيد أو تلك الشهيّة، وإنّما نرضى بالأقلّ كلفة. والحال ذاته لدى الحديث عن الثياب والأحذية والإكسسوارات التي حذفناها من قاموسنا، حتّى فرحة الأولاد بثياب العيد، باتت فرحة منقوصة في ظلّ عجز الأهالي عن شرائها".
وتوضح هيام أنّ "التقليد يقضي بأن تجتمع العائلة ليلة الميلاد. لكن مع ارتفاع أسعار الوقود، سأتكبّد تكاليف باهظة من جراء توجّهي إلى قريتي (شمال لبنان) للاحتفال بالعيد مع الأهل. وبالتالي، هناك العديد من المواطنين الذين سيلازمون منازلهم ولن يتمكّنوا من زيارة أهلهم في القرى والجبال لمعايدتهم"، وتختم حديثها قائلة: "أجواء العيد معدومة لدى الغالبية، وهناك فرق شاسع بين عيد اليوم وأعياد ما قبل الأزمة. نرى أنّ المواطنين يحتفون بالميلاد كيوم مقدّس فحسب، من دون أيّ شعور بالسعادة أو الراحة النفسية والاستقرار".
ومن باحة المدرسة حيث يعمل في جنوب لبنان، يعود جوزيف الياس بالذاكرة إلى سنوات الآباء والأجداد، حين كانت الأمّهات ينهمكن بتحضير كعك العيد بالزيت، إذ إنّ "بوش دو نويل" (حلوى) يُعد موضة جديدة. لكنّ جيل اليوم لا يذكر تلك الأيام. وكان أهلنا يشترون لنا الثياب والأحذية من عام إلى آخر، بينما اليوم تغيّرت الأمور. كما كانوا بدورهم ينتظرون حلول العيد لشراء الملابس وإعداد الهريسة التي ترمز إلى هذه المناسبة. فبهجة العيد في أيّامهم كانت أكبر وأعظم".
يتابع: "يجب ألّا تمنعنا الظروف الصعبة والمأساوية من الاحتفاء بولادة السيّد المسيح، كما يجب أن نتمسّك بعادات القرى التي تدعو للالتفاف بعضنا حول بعض، ومساندة كلّ شخص غير قادر على شراء مأكولات وثياب العيد لأولاده. إذ إنّ ليلة الميلاد ليلة مقدّسة نحتفل بها ونقيم قدّاس منتصف الليل تزامناً مع ولادة السيّد المسيح، رغم ما ينتابنا من حزن وأسى، حتّى لو كانت هناك أيّ حالة وفاة في العائلة، فالشجرة والمغارة رمزان لولادة المسيح وانبعاث الحياة. إنّها ليلة للمحبّة والتسامح بين الإخوة والجيران، ويُمنع من دخول الكنيسة كلّ شخص لم يُصالح الطرف الآخر".
من جهتها، تقول المعلّمة ريتا شمعون، التي تدرّس في مدرسة رسمية في زحلة (البقاع الأوسط)، وتعطي الدروس الخصوصيّة لتتمكن من الصمود، إنّ "التحضيرات لم تعد كالسابق، وخصوصاً لناحية زيارة الأسواق وشراء الثياب والأحذية. أصبحنا نكتفي بتأمين مستلزمات عشاء العيد الذي لا غنى عنه. لكنّنا خفّفنا من الزينة واعتمدنا على الموجود منها، فلا قدرة على التجديد".
بدوره، يقول الخمسيني جان قصابلي: "لا عيد ولا شجرة. فالشجرة باتت تكلّف حوالي مائة دولار أميركي، وهو مبلغ لا طاقة لنا عليه في الوقت الحاضر. بالكاد سنعايد بعضنا بعضاً من خلال رسائل عبر تطبيق واتساب. لقد تحوّلت الأعياد للأسف إلى أيّام عادية وسط هذا الواقع الأليم والكئيب".
جان، وهو أب لأربعة أولاد، يسرد كيف انعكست الأزمة على عمله كوسيط عقاريّ، ويقول: "لا أشغال ولا حياة في هذه البلاد، حتّى أنّني كنتُ أمتلك مكتباً لاستقدام العاملات المهاجرات، لكن توقّف العمل به أيضاً. للأسف، نعيش واقعاً صعباً يستنزفنا كلّ يوم ولا يترك لنا مجالاً للفرح والأمل".
تجدر الإشارة إلى أن روّاد مواقع التواصل الاجتماعي تداولوا أخيراً خبراً مفاده أنّ بلدية جبيل (شماليّ العاصمة بيروت)، فرضت رسوماً على مشاهدة شجرة الميلاد، معتبرين ذلك "تجارة باسم السيّد المسيح"، لا سيّما في ظلّ الأوضاع الاقتصاديّة المريرة في لبنان، غير أنّ مصدراً في البلدية نفى في تصريح لـ"العربي الجديد"، وجود أيّ رسوم تُذكر.