في محاولة للتأقلم مع حياتهم الجديدة في العاصمة المصرية القاهرة، يلجأ العديد من الفلسطينيين النازحين من ويلات حرب الإبادة في غزة، إلى تأسيس حياة تحمل في تفاصيلها ملامح من غزة التي لم تفارقهم، إذ انتشرت مؤخراً مطاعم فلسطينية تشكّل ما ينظر إليه على أنه "غزة صغيرة".
في شرق القاهرة، يشرف الفلسطيني باسم أبو عون (56 عاماً) على تقديم فرشوحة شاورما الديك الرومي الغزاوية لزبائن مطعمه الصغير، والذي افتتحه بعد أقلّ من أربعة أشهر فقط على عبوره وعائلته الكبيرة إلى مصر في شباط/فبراير الماضي، ضمن خطته للاستقرار في القاهرة وتأسيس "حياة جديدة". ومثله الكثير من الغزوايين الذين حالفهم الحظ بالخروج من لهيب الحرب المتواصلة منذ أكثر من سنة في قطاع غزة، إلى مصر.
"حي الرمال" في العاصمة المصرية القاهرة
أسمى مطعمه "حي الرمال"، تيمنا بحيّه في مدينة غزة المدمّرة. يجلس في المكان فلسطينيون يتبادلون الحديث باللهجة الغزاوية وهم يتناولون بنهم سندويشات بخبز الفرشوحة الفلسطيني لُفّت بورق على شكل الكوفية الفلسطينية يقدمّها نادل غزاوي مبتسم طُبع علم فلسطين على كمّ قميصه القرمزي. وبجوار محلّه في ضاحية مدينة نصر شرق القاهرة، رُسم علما مصر وفلسطين متشابكين على أحد الجدران.
يقول أبو عون "لو توقّفت الحرب الآن في غزة، سأحتاج سنتين أو ثلاث على الأقل لأقلع مجدداً بحياتي. لأن كل شيء ممسوح هناك. الأمور صعبة ولن تتحسّن بين يوم وليلة". ويتابع بأسى إنها "حرب شرسة غير مسبوقة في حياتي. حرب إبادة ضد البشر والحجر".
ولجأ عدد كبير من الفلسطينيين إلى حي مدينة نصر الذي تسكنه إجمالاً عائلات من الطبقة المتوسطة. ورغم حصولهم على تصاريح إقامة موقتة، فتح رجال أعمال فلسطينيون فيه ما لا يقل عن 15 مطعماً تنوعت بين الشاورما والحلويات والفلافل والمقاهي التي باتت مقصداً للجالية الغزاوية. ويتابع أبو عون "لدي مسؤولية عائلة وأولاد في الجامعات... فكرت في أنّ أستقرّ هنا وأعيد تأهيل نفسي".
كان أبو عون يملك فرعين لمطعم يحمل اسم "تركي" في قطاع غزة أصبحا ركاماً. فترك كلّ شيء وغادر القطاع حاملاً مبلغاً صغيراً لا يشكّل كلّ ما يملك. إذ دخل وعائلته مصر ضمن أكثر من 120 ألف فلسطيني وصلوا إلى البلاد بين نوفمبر/تشرين الثاني ومايو/أيار الماضيين، بحسب البيانات الرسمية، عبر معبر رفح، المنفذ الوحيد لقطاع غزة إلى الخارج قبل أن يسيطر عليه جيش الاحتلال الإسرائيلي، ما تسبّب بإقفاله.
ودخل الفلسطينيون إلى مصر عبر عمليات إجلاء منظمة لأسباب طبية أو عبر قوائم رسمية أدرجت أسماؤهم عليها، ومنهم من لجأ إلى شركة "هلا" الخاصة في مصر التي تنظّم عمليات الخروج مقابل مبالغ مالية. لم يكن قرار افتتاح المطعم سهلاً على أبو عون لكنّه اليوم يعتبره "أفضل قرار" اتخذه. ويقول بينما يعاين طبق السلطة الغزاوية المميزة، وهي خليط من الصلصة وقطع البصل الصغيرة، يقدّم لعائلة من آسيا الوسطى، "كانت مجازفة كبيرة.. فكرت أن أعيش لسنة بالمبلغ الذي خرجت به أو أفتح مشروعاً، والأرزاق على الله". ويلاقي المطعم إقبالاً، وفق ما يقول أبو عون مبتسماً، مضيفاً "سأفتتح فرعاً ثانياً وسنتوسّع".
قبالة مطعمه، يوجد مطعم سوري. وبالقرب منه، محل "كاظم" المعروف منذ عقود في غزة والذي افتتح صاحبه الفلسطيني فرعاً له في ضاحية نصر تحت اسم "بوظة وبراد" في سبتمبر/أيلول الفائت، ويقدّم المحل الذي اكتظّ بالزبائن المصريين، المثلجات فوق مشروب مثلج في كوب ترشّ على وجهه حبات الفستق. ويقول صاحب المحل كنعان كاظم (66 عاماً) "هناك نوع من الخوف والرهبة أن تفتتح مشروعاً في بلد لا يعرفك الناس فيه". لكنّه يتابع بتحدّ، وقد وقف إلى جانبه أبناؤه، "إذا حُكم علينا ألا نعود (إلى غزة)، لا بدّ أن نتكيّف مع الوضع الجديد ونبدأ حياة جديدة".
ويأمل كاظم أن يعود إلى غزة، لكنّ ابنه نادر الذي يدير المحلّ قرّر الاستقرار في مصر، يقول نادر، وهو أب لطفل وطفلة، "المجال هنا أوسع وأكثر أماناً واستقراراً بالإضافة إلى أن البلاد تشكّل سوقاً كبيرة" بعدد سكانها الذي يناهز 107 ملايين. مضيفاً "المكان الذي ترتاح فيه، تحبّ أن تعيش وتشتغل فيه، وتربّي أطفالك فيه، وتعدّ لهم مستقبلهم. هذا ما أشعر به في مصر".
وتُشعِر سلسلة المحال والمطاعم الفلسطينية المتراصة، الغزاوي بشار محمد (25 عاماً) بـ"الطمأنينة والراحة". يقول الشاب بعدما تناول وجبة شاورما دجاج ساخنة "وجود المطاعم الفلسطينية بهذا العدد يبني مجتمعاً فلسطينياً حولها ويساعد على البقاء طويلاً"، ويضيف إنها "بمثابة غزة صغيرة تذكرني بروح وجمال غزة". ويروي محمد أن عدداً كبيراً من أقاربه استشهدوا في الحرب في قطاع غزة. واشترى الشاب الحاصل على شهادة في إدارة الأعمال حاسوباً آلياً محمولاً ودرس التسويق الإلكتروني لكسب العيش. يأخذ نفساً عميقاً، ويقول بأسى "صعب أن أعود إلى غزة. لم تبق حياة هناك... لا بد أنّ أؤسس حياة جديدة هنا".
بعد أكثر من عام على بدء الحرب، باتت غزة "غير صالحة للسكن" بسبب الدمار الهائل وتدمير البنى التحتية، بحسب الأمم المتحدة. واندلعت الحرب الإسرائيلية على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وأسفرت عن استشهاد 43374 فلسطينياً، وإصابة 102261 آخرين، في حين لا يزال آلاف الضحايا تحت الركام وفي الطرقات ولا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم.
(فرانس برس، العربي الجديد)