رغم الهدنة الإنسانية المعلنة، يواصل الاحتلال الإسرائيلي فصل شمالي قطاع غزة عن وسطه وجنوبه، وتتمركز آلياته العسكرية وجنوده في المنطقة الممتدة من مفترق "شارع 10" في حي الزيتون شرقي مدينة غزة حتى حدود وسط قطاع غزة، كما يحتل المنطقة من غرب شاطئ البحر حتى الشرق، ويطلق النار على القادمين من الجنوب الراغبين في تفقد منازلهم في الشمال أو مدينة غزة، في حين يسمح بمرور الراغبين في النزوح من الشمال إلى الجنوب بعد تدقيق وثائقهم.
وفي حين يعلم الكثير من الغزيين أن منازلهم في المنطقة الشمالية لحقت بها أضرار بالغة أو دمرت بالكامل، لكن الآلاف منهم توجهوا إليها آملين أن يجدوها مازالت قابلة للسكن، أو بهدف انتشال بعض الأغراض الضرورية مثل الفرش والأغطية والملابس، أو حتى مطالعة ذكرياتهم في تلك المنازل.
لم يستطع الفلسطيني إياد زيادة (35 سنة) مغادرة مدينة غزة خلال القصف، إذ حاصرتهم قوات الاحتلال التي توغلت في المنطقة، وطلبت منهم عدم المغادرة، فقرر مع عدد من الأسر البقاء في داخل مدرسة غزة الجديدة للذكور، والتي تقع بين مخيم الشاطئ وحي النصر. ومع بدء الهدنة، أسرع مع آخرين لتفقد ما بقي من شقته في أحد مباني حي الرمال، ليكتشف أن جميع مباني الحي أصابها القصف، وأن كل المباني تضررت، كلياً أو جزئياً.
اشترى زيادة الشقة قبل أربع سنوات، ولا يزال يسدد أقساط ثمنها، ويقول: "غضب طفلاي حين قررت مغادرة المنزل، كنت قد اشتريت لهما مؤخراً سريرين طلباهما، الأول عليه رسومات سبايدرمان لابني راني (7 سنوات)، والآخر عليه رسومات شخصية (فروزن) لابنتي سارة (6 سنوات)، لكن لم نكن نملك البقاء تحت القصف. حين عدت لتفقد الشقة وجدت السريرين تحت الركام، لكني عثرت على بعض ألعاب طفليّ في كيس كبير إلى جوار خزانتهما التي سقطت فوق السريرين المحطمين، وكانت الألعاب سليمة".
يمنع الاحتلال وصول القادمين من جنوب غزة لتفقد منازلهم في شمالي القطاع
عاد زيادة إلى أطفاله في المدرسة مع الألعاب، ورغم إبلاغهما بأن المنزل دمر، إلا أنهما عبرا عن سعادتهما بوصوله إلى الألعاب، حتى أن طفلته التي تملك ثلاث دمى على شكل شخصية فروزن الكرتونية، بدأت تنظيف الدمى وتصفيف شعرها، بينما أخرج راني لعبته المفضلة، وهي كرة القدم، وانطلق للعب في داخل ساحة المدرسة.
يقول زيادة لـ"العربي الجديد": "ما شاهدته كارثة كبيرة، لقد أحرقوا ودمروا جميع المنازل. كل المعالم تغيرت في مدينة غزة التي كانت مكتظة بالناس ومفعمة بالحياة. أطفالي سعداء باسترجاع بعض ألعابهم، وأنا أيضاً شعرت بتحقيق إنجاز حين وجدت كيس الألعاب للتخفيف عنهم في هذه الظروف الصعبة، لكني تركت جزءا من روحي في الشقة التي قمت بادخار المال لشرائها، ومازلت أسدد أقساطها، وقد احتفظت عند النزوح بالأوراق الرسمية والعقود".
بدوره، تفقد رامي أبو عبيد (58 سنة) البناية التي كان يعيش فيها مع عائلته صباح الجمعة، فوجدها مدمرة بالكامل. وقف أمام الركام مع أبنائه وأحفاده في حالة صدمة كبيرة، ثم باشر بإخراج عدد من الجثث من تحت أنقاض المنازل المجاورة، وكان من بينهم جثمانا سيدة وطفلة انهار فوقهما المنزل، ثم طلب من أحفاده وأبنائه البحث بين أنقاض منزلهم عن أية متعلقات، وحملها إلى المدرسة التي نزحوا إليها بمنطقة الفالوجا في مخيم جباليا.
في المدرسة، انفجر أبو عبيد باكياً عندما اكتشف أن أحد أبنائه عاد من المنزل حاملاً إبريق القهوة النحاسي الذي ورثه عن والده، والذي تحتفظ به الأسرة منذ نحو 50 عاماً. يقول الخمسيني الفلسطيني لـ"العربي الجديد": "كان هذا الإبريق المفضل لوالدي الراحل، والذي ولد في مدينة يافا المحتلة عام 1948، كما عثر الأولاد على بعض المتعلقات الشخصية، من بينها جلابيتي البيضاء والعقال الذي كنت أضعهما قبل العدوان، وصور عائلية كانت تحت الأنقاض. مناطق شمالي غزة أبيدت بالكامل. كنت أمشي صباح الجمعة باتجاه المنزل، ولا أبالي بقدمي التي تؤلمني من جراء خشونة المفاصل. وصلني خبر أن القصف كان بعيداً عن منزلنا، وتوقعت أن أجد فيه أضراراً. لكن المنزل الذي قضيت 35 عامًا أبنيه دمر تماماً. كنت أشاهد أحياء مدمرة، ومدينتي التي تحولت إلى مدينة أشباح تتناثر فيها الجثث".
ويوضح أبو عبيد: "أعتقد أن منزلي دمر في الليلة التي سبقت الهدنة، لأني لاحظت وجود دخان في بعض أجزاء المنزل، والاحتلال شدد القصف في اليوم الأخير قبل الهدنة. روحي معلقة بكل حجر في البناء، وقد ولد أبنائي وأحفادي فيه، ولي فيه كثير من ذكريات حياتي، لحظات سعيدة وأخرى حزينة، لكننا سنعود إلى المنزل، لو هدموه ألف مرة سنعود لنعمره".
ووفق آخر إحصاء لوزارة الداخلية والأمن الوطني في قطاع غزة، والصادر في بداية العام الحالي، فقد بلغ عدد سكان القطاع مليونين و380 ألف نسمة، ويقدر مكتب الإعلام الحكومي أن نحو مليون و750 ألف غزي نزحوا من شمالي القطاع ومدينة غزة إلى الجنوب، وأن هؤلاء النازحين موزعون على مراكز نزوح ومنازل أقاربهم وفي مستشفيات ومحال تجارية، وحتى مخازن كبيرة تم تفريغها لتستوعب نازحين.
وحسب آخر إحصاء لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، فإن ما يقرب من 160 ألف نازح يقيمون في 57 مدرسة تابعة لها في مناطق الشمال ومدينة غزة، وأن موظفيها غير قادرين على الوصول إلى هذه الملاجئ لمساعدة أو حماية النازحين، وليس لديها معلومات عن احتياجاتهم أو ظروف عيشهم.
على أرض الواقع، يؤكد شهود عيان ونازحون أن الأعداد تزايدت داخل المدارس مع تزايد الانتهاكات الإسرائيلية. كان النازح محمد الحويطي (40 سنة) أحد الذين تفقدوا منازلهم في مخيم جباليا، وقد وجده مدمراً، وكذا المربع السكني بالكامل، لكنه وجد غرفة في أسفل المنزل غير مدمرة، ومن حسن حظه كان فيها بعض الأموال والوثائق الرسمية، فحملها وعاد إلى زوجته مسروراً رغم صدمته مما حل بمنزله.
يقول الحويطي لـ"العربي الجديد": "كنت قد ادخرت بعض الأموال، وكنت أنوي مساعدة شقيقي الذي كان ينوي الزواج، وأن أحضر لوالدتي بعض الحاجيات التي ترغب فيها، وأشتري هدية لزوجتي. عندما غادرنا تركنا كل شيء خلفنا، وكنت حزيناً، لكن زوجتي كانت تكرر أن المال معوض، وكذلك المنزل، لكن الروح لا تعوض".
وقام عدد من النازحين من الشمال إلى مناطق الجنوب بالتواصل مع المتبقين من عائلاتهم وجيرانهم للاطمئنان على منازلهم، خصوصاً سكان مدينة غزة. يوضح الحويطي: "تفقدت منازل كثيرين من أصدقائي الذين طلبوا مني ذلك، ووجدت غالبيتها مدمرة، أو أصابتها أضرار بالغة جعلتها لم تعد صالحة للسكن، كما وجدت بعض متعلقات أصدقائي، وكنت أخبرهم بما وجدته، وكانوا يفرحون كثيراً. وجدت صور والدة أحد الأصدقاء المتوفية، وقد حمّلني أمانة الحفاظ على الصورة التي كانت نصف ممزقة. كلنا نبحث عن أي شيء من ذكرياتنا الجميلة في غزة".
وقال المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، أشرف القدرة، السبت، إن 3 مستشفيات فقط تعمل بإمكانيات "محدودة للغاية" في شمالي القطاع الذي يسكن فيه نحو 900 ألف مواطن، وإن الوضع الصحي في القطاع "كارثي للغاية، ولا توجد أي مقومات"، كما أن المساعدات الطبية التي دخلت إلى القطاع "غير كافية، وهي أقل بكثير مما كان يدخل سابقا".
بدوره، عبّر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، عن أمله في أن تتحول الهدنة الإنسانية المؤقتة في غزة إلى وقف إطلاق نار طويل الأمد. في حين كشفت منظمة الصحة العالمية في بيان، أنه ليس لديها أية معلومات حول مصير مدير مجمع الشفاء الطبي، محمد أبو سلمية، الذي اعتقلته قوات الاحتلال في 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مع ثلاثة من أفراد الطاقم الطبي لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني واثنين من وزارة الصحة الفلسطينية، وذلك في أثناء مشاركتهم في مهمة قادتها الأمم المتحدة لإجلاء مرضى. وذكرت المنظمة أنه أُطلق سراح اثنين من المحتجزين الستة، لكنها لا تملك معلومات عن سلامة العاملين الصحيين الآخرين.