يعمّ حزن كبير مخيّم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين (شمال لبنان) بشكل خاص والمخيمات الفلسطينية بشكل عام، إثر حادثة غرق المركب الذي كان يُقلّ على متنه مهاجرين سريين لبنانيين وفلسطينيين وسوريين قُدر عددهم بحوالي 160 شخصاً، قبالة ساحل طرطوس في سورية. وفي آخر حصيلة أوردها التلفزيون السوري التابع للنظام، مساء السبت الماضي، "ارتفع عدد ضحايا غرق المركب إلى 94 شخصاً". وأوقفت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني المواطن ب.د. للاشتباه في تورطه في تهريب مهاجرين سريين عبر البحر، مشيرة إلى أن التحقيقات أثبتت تورط الموقوف في إدارة شبكة تنشط في تهريب مهاجرين سريين عبر البحر، وذلك انطلاقاً من شاطئ الشمال اللبناني الممتد من العريضة حتى المنية.
يعد الواقع الاقتصادي في لبنان، خصوصاً بعد انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، وانقطاع الخدمات الأساسية بشكل شبه تام، والتضييق المستمر على اللاجئين، من الأسباب الرئيسية التي تدفع اللاجئين الفلسطينيين والسوريين وحتى اللبنانيين إلى الهجرة، وإن عبر مراكب الموت.
يقول الناجي الفلسطيني محمد فارس إسماعيل، الذي خسر زوجته وأولاده الثلاثة، ويعيش في مخيم نهر البارد ويعمل ممرضاً في مركزين طبيين: "انطلقت الرحلة عند الساعة الثانية عشرة والنصف ليلاً، وكانت وجهتنا إيطاليا. وحين وصلنا إلى المركب، فوجئنا بعدد الركاب الكبير الذي يتراوح ما بين 160 و170 راكباً، وهو ما يفوق قدرة المركب على التحمل. عارض القبطان وجود هذا العدد من الركاب على متنه، لكنه تعرّض للتهديد، وطُلب منه الانطلاق عند الساعة الثالثة والنصف فجراً من بلدة المنية (تبعد 10 كيلومترات عن طرابلس). عند الساعة السابعة والنصف تعطل المركب، ثم سار مجدداً. وعند التاسعة، توقف نهائياً، وكانت الأمواج قوية، ما أدى إلى غرق الأشخاص الذين كانوا في أسفل المركب. توفي القبطان وزوجته وأولاده، وماتت زوجتي وأولادي وصهري وابن أختي. وعندما رأيت الناس يموتون، بدأت التجديف مع شاب سوري وكنت أرتدي سترة النجاة. وعند الساعة السابعة والنصف من مساء الخميس، اقترب منا مركب سوري، وكنا قد سبحنا لمدة 13 ساعة، وأنقذنا وأوصلنا إلى المستشفى، حيث غبت عن الوعي".
وعن سبب الهجرة، يقول: "كان راتبي يساوي ألف دولار. لكن بعد انهيار قيمة الليرة اللبنانية، صار راتبي يساوي 40 دولاراً، وهو لا يكفي لتأمين بدل المواصلات. فقررت الهجرة واستدنت المال من أجل ذلك. أخبرنا المهرب بأن حال المركب جيد، وعدد المهاجرين 70. لكننا فوجئنا بالعدد الذي كان موجوداً. خسرت أولادي وزوجتي. لم يعد لدي شيء. ليتني مت معهم، لكنني لا أعلم كيف نجوت من الموت". يضيف إسماعيل أن "صاحب المركب يتحمل مسؤولية ما حصل معنا".
من جهته، يقول أمين سر اللجان الشعبية في الشمال أحمد غنومي: "نعيش فاجعة كبيرة من جراء ما حصل. كان هناك 39 فلسطينياً على متن المركب، 35 شخصاً من مخيم نهر البارد و4 من مخيم شاتيلا (جنوب بيروت)، بالإضافة إلى لبنانيين وسوريين. والمخيم اليوم في حالة حداد وغضب. اليأس الذي يعيشه الناس دفعهم إلى التفكير في الهجرة عبر البحر، علماً أن احتمال الوصول إلى وجهتهم هو واحد في المائة".
يتابع: "الوضع الاقتصادي في لبنان صعب للغاية. ويعيش أهالي المخيمات أزمة مضاعفة، إذ أن أعداداً كبيرة من الخريجين الجامعيين ممنوعون من العمل بشهاداتهم. لذلك، لم يعد للناس أية خيارات". ويشير إلى أن الفلسطيني في المخيمات محروم من أبسط مقومات الحياة، الأمر الذي تتحمل مسؤوليته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي تقلّص خدماتها يوماً بعد يوم، والدولة اللبنانية التي تحرم الفلسطينيين من حقهم في العمل، بالإضافة إلى القيادات والفصائل الفلسطينية".
من جهتها، خسرت عائلة أبو ستيتة طفلها البالغ من العمر ثلاث سنوات في رحلة هجرة سابقة (قبل نحو 10 أيام) بحثاً عن حياة أفضل. يقول خال الطفل المتوفى أحمد صالح داود، المقيم في مخيم شاتيلا ببيروت: "يعاني زوج أختي، حاله حال الكثير من الشباب الفلسطينيين، ضيق العيش في ظل الغلاء وانقطاع الكهرباء وغيرهما من الهموم والمشاكل. ولم يعد باستطاعته تحمّل هذه الحياة. كان يعمل في مجال الألمنيوم، ولديه طفل وحيد يدعى سمير ماهر أبو ستيتة وقد توفي في رحلة الهجرة. سافر الوالد من أجل تأمين حياة كريمة لابنه لكنه خسره. وما زال وأختي محجوزين في تركيا، وقد تمكنّا من الاطمئنان عليهما من خلال صديق".
يتابع: "باع زوج أختي أثاث بيته من أجل تأمين المبلغ المطلوب للمهربين الذين يتفقون مع عناصر من الدولة لتسهيل الإبحار. كان على متن المركب الذي أقلهم 50 شخصاً، علماً أنه يتسع لنحو 60. لكن المحرك تعطّل قبالة اليونان. فجاء عناصر خفر السواحل اليوناني، وأخذوا منهم مالهم وملابسهم وهواتفهم النقالة، ما أدى إلى انقطاع الاتصال بهم، ثم وضعوهم في مركب مطاطي، وكانت أختي ترتدي سترة نجاة. وبعد وقت غرق من كان على متن المركب وظلت شقيقتي حتى الثامنة صباحاً في المياه. وفي الصباح، تم إنقاذهم من قبل الأتراك. وما من وسيلة للتواصل معهم في الوقت الحالي، إلا أن زوج شقيقتي تمكن من الاتصال بصديق له من خلال هاتف أحد العسكريين في تركيا، وعلمنا بوفاة الطفل".
وتقول خالة الطفل ريهام داود: "مكثت شقيقتي حوالي الشهر ونصف الشهر في مدينة طرابلس. وفي كل مرة، كان المهرب يعدهم بقرب انطلاق الرحلة، لتنطلق في العاشر من الشهر الجاري". تتابع: "قرر زوج أختي الهجرة بسبب عدم قدرته على تحمّل الغلاء الفاحش. دخله لم يعد يكفيه، وقد وصل بدل إيجار المنزل إلى نحو سبعة ملايين ليرة لبنانية (الدولار يساوي 37 ألف ليرة لبنانية بحسب سعر الصرف في السوق السوداء)، عدا عن رسوم المولد الكهربائي والمأكل والمشرب وغيرها. قرر الهجرة إلى ألمانيا، وانطلقت الرحلة يوم السبت في العاشر من الشهر الجاري، واتصلت بنا في اليوم التالي عند الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، وأخبرتني أنها قطعت قبرص. وفي مساء اليوم نفسه، أخبرتني أنهم وصلوا إلى اليونان".
تضيف أن "الفقر وغياب الأمان والمستقبل يؤدون إلى الهجرة، وإلى أن يضحي الإنسان بنفسه على أمل الخلاص. نحن أموات في لبنان كما في البحر. في الوقت الحالي، أريد أن أتمكن من التواصل مع شقيقتي والاطمئنان عليها. تعيش بالتأكيد حالة نفسية صعبة بعدما فقدت ابنها".
بدوره، يقول محمد واكد، وهو صديق والد الطفل سمير الذي اتصل به الأب: "اتصل بي من هاتف عسكري تركي، وأخبرني بأن سمير توفي على أيدي خفر السواحل اليوناني الذي عمد إلى إغراقهم. أما الاتصال الثاني فكان قصيراً جداً، وقد طمأنني فيه على نفسه وأغلق الهاتف. نحن بانتظار أن يعودا بسرعة، كما أن أم الطفل اتصلت بوالدها وطمأنته على نفسها".
إلى ذلك، يقول مسؤول العلاقات السياسية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مخيم شاتيلا، عاهد بهار: "موضوع الهجرة قديم ويتجدد مع كل أزمة اقتصادية جديدة في لبنان يتأثر بها الفلسطينيون. وفي ظل انعدام فرص العمل، يفكر الشباب الفلسطينيون في الهجرة، وكل فلسطيني يعيش هنا يقول إنه ميت، وبالتالي لا يهمه إن مات في البحر وهو يبحث عن عيش أفضل له ولعائلته. الأونروا تتحمل مسؤولية ما يحصل، لأنها مسؤولة عن الشعب الفلسطيني. كما أن هناك جهات تشجع الشباب الفلسطينيين على الهجرة، بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني والفصائل الفلسطينية ومؤسساتها".