يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في مصر نحو 48 ألف شخص، بحسب تقديرات منظمات معنية بشؤون اللاجئين، ويبدو تطابق رقم سنة النكبة مع عددهم لافتاً، بقدر حجم المتاعب المعيشية التي يواجهونها.
ويعد المقيمون في مصر حالة فريدة بين اللاجئين الفلسطينيين في مختلف دول العالم، ففضلا عن كون أعدادهم هي الأقل مقارنة بالأعداد الكبيرة في دول الطوق المحيطة ببلدهم الذي غادروه قسراً، فهم يعيشون في وضع "لا لاجئون ولا مواطنون"، حسب تعبير عدد منهم، فلا تمنح الجنسية المصرية للفلسطيني إلا بشروط مشددة أثارت انتقادات المتعاطفين مع القضية، فيما يدافع آخرون بأن منح الجنسية للفلسطينيين يساهم في محو قضيتهم عبر ذوبان هوية أصحابها في هويات أخرى، ويرجع هؤلاء إلى المادة الأولى من قرار جامعة الدول العربية الصادر في عام 1952، والذي يؤكد أنّ "على الحكومات العربية أن تؤجل جهود توطين اللاجئين الفلسطينيين".
نزحت عائلة الخمسينية الفلسطينية أمل من مدينة رفح الفلسطينية، إلى شمال سيناء، ثم استقرت لاحقاً في العاصمة المصرية القاهرة، وتقول إن "مبررات عدم منح الجنسية لا تصلح لتبرير غيرها من المتاعب التي يواجهها الفلسطينيون في مصر، والتي تزايدت عقب تبدل أحوال البلاد في صيف عام 2013".
لم تشهد أمل، بحكم سنها الصغيرة نسبياً، تبدل الأزمنة على الفلسطينيين بمصر، بداية من الترحيب الشديد بهم خلال فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حد تمتعهم بكامل امتيازات المصريين، ثم انقلاب نظام الرئيس الراحل أنور السادات عليهم عقب اغتيال فلسطينيين لوزير الثقافة يوسف السباعي، وانتهاء باعتبارهم متهمين إلى أن يثبت العكس في عهد الرئيسين الراحل حسني مبارك، والحالي عبد الفتاح السيسي، باستثناء فترة استراحة قصيرة من المعاناة، إبان سنتي ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وسنة حكم الرئيس الراحل محمد مرسي بين عامي 2012 إلى 2013.
قبل الموافقة على الحديث مع "العربي الجديد"، اشترطت أمل أن يكون الحديث معها عبر "واتساب" لا هاتفياً، مع إضافة شرط آخر هو حذف المحادثة عقب إجرائها، وبررت حذرها الكبير بالسعي إلى تجنب "الملاحقة الأمنية"، إذ يظن كثير من الفلسطينيين في مصر أنهم مراقبون باستمرار، وملاحقون دوماً.
لم تكن الأحوال في مصر مريحة دائماً، لكن الوطأة زادت عقب 2013، حينما بدأ الانقسام الشعبي في مصر بين مؤيد لثورة يناير والكارهين لها الذين كانوا يروجون أن الفلسطينيين اقتحموا الحدود المصرية، وفتحوا السجون، وساهموا في تأجيج الثورة، بحسب ما زعمته زوراً وسائل إعلام مصرية.
تعاني أمل من مشكلات في عضلة القلب، ويضاعف آلامها أنها لا تتمكن من الحصول على العلاج المجاني لأنها "أجنبية" في عرف القانون المصري، فضلا عن انتهاء إقامتها منذ عام 2014، ما دفعها إلى التوجه إلى "مستشفى فلسطين" في شرقي القاهرة.
مع الغرق في الهموم المعيشية ومحاولات العلاج، تنشغل أمل بتجديد إقامتها، وكلما همت بتجديدها، وجدت أن المبلغ المطلوب يفوق قدراتها، ما يجعلها تظل عالقة، فكلما حاولت العودة إلى بلدها وجدت أن المبلغ المطلوب قفز مجدداً.
يحمل أغلب الفلسطينيين المقيمين في مصر تصاريح "إقامة مؤقتة" تسري لمدد ما بين سنة إلى ثلاث سنوات، وتعتبر مصر الدولة العربية الوحيدة التي تطلب من جميع الفلسطينيين تجديد تصاريح إقامتهم بصفة منتظمة.
تقول أمل: "لا تدري نفس بأي أرض تموت"، وتأمل بأن يضم تراب بلادها رفاتها إذا عجزت وهي حية عن تحقيق حلم العودة الذي تتحالف الظروف والتوجهات الدولية والإقليمية لمنع تحقيقه.
والفلسطينيون في مصر حائرون بين منظمتين لشؤون اللاجئين، وكلتاهما تتنصل من المسؤولية، إذ تقول مفوضية شؤون اللاجئين الأممية إنها مسؤولة عن كل اللاجئين في مصر إلا الفلسطينيين لأنهم من اختصاص وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، والتي تقول بدورها إنها مسؤولة عن الفلسطينيين في خمس مناطق محددة لعملها، وهي غزة، والضفة الغربية، والأردن، ولبنان، وسورية، وإنها لا تستطيع أن تمارس العمل خارج تلك المناطق، معتبرة أن فلسطينيي مصر لايزالون على وضعهم القديم، حين كانوا يتمتعون بامتيازات المواطنة المصرية الكاملة باستثناء حمل الجنسية، كما أنه لا مكتب للوكالة في البلاد.
يجعل ذلك الفلسطينيين في وضع استثنائي، فلا هم يتلقون المساعدات الدولية، ولا هم يتمتعون بالامتيازات المحلية، كما كان الأمر في السابق.
اختار المسن الفلسطيني غريب، اللجوء إلى مصر، حين اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، فتشتت عائلته بين فلسطين ومصر ولبنان. أصيب غريب برصاصات عشوائية في العاصمة اللبنانية بيروت، جعلته يكمل رحلة اللجوء بقدم مصابة. يقول لـ"العربي الجديد"، إن إحدى الرصاصات استقرت في العظم، وأكد الأطباء المعالجون في مصر أن استخراجها يمكن أن يؤدي إلى عجزه عن الحركة.
يتحدث غريب أيضاً بحذر، مشيراً إلى أن تغريبته دائما ما تنتهي بإصابة بالرصاص، "حين كنت طفلاً في فلسطين، أصبت برصاصة غادرة من جنود الاحتلال، وأجريت لي عملية جراحية بمستشفى في خان يونس، وبعد شهرين من الإصابة أجريت عمليتان جراحيتان في مستشفى بالقدس، وعندها تقطعت السبل بيني وبين والدي الذي كان يعمل في محافظة طولكرم بالضفة الغربية، إذ فرض حظر تجوال وتقطعت الطرق. في التغريبة الأولى هاجرت عائلتي من منطقة الجورة بالضفة الغربية إلي رفح الفلسطينية، ومنها بدأت رحلة الشتات التي فقدت فيها اثنين من أشقائي، حتى أننا لم نتمكن من دفن جثتيهما بشكل لائق".
في البداية، لم تواجه غريب صعوبات في الحصول على الإقامة في مصر، وحصل على عدد من الخدمات الأساسية، لكنه ظل يواجه تحديات كبيرة تتعلق بالعمل، وعانى من البطالة لفترة نظراً لإعاقته، علاوة على عدم وجود وضع قانوني واضح للفلسطينيين في البلاد. عمل في أكثر من حرفة، منها عامل محارة، ونقاش، وبعدها بدأ يدخر المال الذي مكنه من التجارة في المواشي التي يربيها في مزارع فلاحين مصريين بقرية "فاضل" التابعة لمركز "أبو كبير" في محافظة الشرقية.
يوضح لـ "العربي الجديد": "يسكن في قرية فاضل نحو أربعة آلاف فلسطيني، وربما هذا أكبر تجمع للفلسطينيين في مصر، إضافة إلى مناطق أخرى في القاهرة، والإسماعيلية وبورسعيد والعريش ورفح. باتت المواشي مصدر دخل الأسرة، وعادة لا أشعر بالغربة بين المصريين، فالغالبية يستقبلونني بحفاوة حين يعلمون أنني فلسطيني. أذكر أنني اشتريت أعلافاً بنظام الدفع الآجل من تاجر، واتفقنا على الدفع على ثلاث دفعات، وعند الدفعة الثانية فوجئت برفض تاجر الأعلاف أن يحصل على المال حين علم أن مرضاً أصاب المواشي، وقضى على عدد منها. قال التاجر المصري إنه متنازل عن بقية الدفعات كرامة لفلسطين الحبيبة".
انقلبت الأوضاع بعد عام 2013، وتجددت ملاحقة الفلسطينيين بنفس اتهامات فترة السبعينات، فصار غريب يتجنب ذكر أنه فلسطيني، وعقب انتقاله إلى القاهرة للعمل في تجارة الأعشاب، بات يخفي هويته خشية أن يكون من يتعامل معه ممن "لعب الإعلام الحكومي بعقولهم" وفق تعبيره، مؤكداً أن الكثير من الفلسطينيين باتوا يخفون هويتهم، وبعضهم يتجنبون الاختلاط مع الآخرين خشية المشكلات.
وتقول الباحثة الفلسطينية، عروب العابد، إن "سياسات مصر المتغيرة تجاه الفلسطينيين أدت إلى تآكل تدريجي لحقوقهم، إذ همشت القيود حقوق الفلسطينيين، وخفضتهم إلى مرتبة الأجانب، كما حرمتهم من الوصول إلى الهيئات الدولية القادرة على التعبير عن احتياجاتهم.
ووفق ورقة بحثية صدرت قبل نحو عقدين، بعنوان "المنسيون: كيف يعيش اللاجئون الفلسطينيون في مصر"، فقد "فشلت جميع الصكوك القانونية الصادرة عن الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في حماية حقوق الإنسان الأساسية للفلسطينيين، ليس فقط للمقيمين في أراضي فلسطين التاريخية، ولكن أيضاً المقيمين في المنفى، سواء في مصر أو دول عربية وأجنبية أخرى".