بدأت آثار الغزو الروسي لأوكرانيا تطل بصور بشعة في بعض المجتمعات التي تتابع "الخطر الروسي" عن كثب. وتمثلت في حالة أشبه بكره كل ما يتعلق بروسيا والروس مع تعمّد إظهار الاستهداف في كل المجالات، ما يكرّس الوجه الآخر للتضامن العالي مع الشعب الأوكراني. وشمل هذا الواقع أميركا وأوروبا بشطريها الغربي والشرقي.
وإذا كان الفرع الدنماركي لمنظمة "أنقذوا الأطفال" حذر أخيراً من موجة تعريض الأطفال من خلفيات روسية في المدارس والرياض إلى مضايقات ومظاهر تنمر، لا تبدو الأمور في خير حالياً بالنسبة إلى الأقليات الروسية حول العالم، وحتى الشركات والمحلات التجارية التي تحمل أسماء روسية، رغم أن لا علاقة لها بالغزو، ما يؤكد تزايد مشاعر رفض الروس خارج بلدهم. مع تواصل الحرب على أوكرانيا، وتوارد الأخبار القاسية عن القتلى والأضرار.
وهكذا أطلقت الحرب الروسية على أوكرانيا منذ 24 فبراير/ شباط الماضي الرهاب الروسي (روسفوبيا). ومع تزايد العقوبات والمقاطعة الغربية لروسيا، تتعرض الشركات والمتاجر والكنائس الروسية لغضب أكبر من أشخاص لا يفرّقون بين قرار اتخذه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وشعبه المنتشر في العالم.
حصة الروس الصغار
وليس تحذير فرع "أنقذوا الطفولة" في الدنمارك من انعكاسات سلبية للحرب على أوكرانيا على الأطفال من أصل روسي حالة منعزلة، بل أشبه بتيار عام بدأ ينتشر في أوروبا والعالم.
وذكّرت المنظمة بأن حالات التنمر والمضايقات التي يتعرض لها الصغار "تؤدي إلى مشاكل كثيرة بينها اضطرابات نفسية تظهر في خشية الأطفال من ارتياد المدارس والرياض بسبب خوفهم وشعورهم أنهم منبوذون، ولا يريد أحد أن يلعب معهم".
وبالنسبة إلى المعالجين النفسيين ليست ردود أفعال الأطفال الروس حالات فردية بل جماعية تقترن بانتشار "الرهاب الروسي" في العالم الافتراضي، ومنصات كثيرة مثل "تيك توك" و"إنستغرام"، والوضع السائد في باحات المدارس، حيث يُنبذ التلاميذ الروس ولا يقترب منهم أحد وصولاً إلى مضايقتهم.
وفي تصريحات أدلى بها للتلفزيون الدنماركي، أشار المستشار النفسي في "أنقذوا الطفولة" جون كريستيان لانغ إلى أن "المشكلة مقلقة، إذ بتنا نسمع قصصاً يؤكد فيها آباء لأطفال من أصول روسية خشية أولادهم من الذهاب إلى المدارس بسبب شعورهم بأنهم منبوذون ومكروهون بسبب ما يحصل في أوكرانيا".
وكانت المنظمة نفسها حذرت مع بداية الغزو الروسي الأهالي من تأثير أخبار الحرب على الصغار، وقدمت نصائح لهم في شأن كيفية التحدث مع الصغار. لكن يبدو أن محاولات حصر أخبار الحرب بالكبار فشلت مع توارد الصور والأنباء التي تثير اهتمام غالبية المجتمعات الأوروبية، خصوصاً أنها تذكّر بكراهية الألمان خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، والتي استمرت آثارها طويلاً في مجتمعات احتلها النازيون.
واللافت أن منصات إلكترونية كثيرة يتعامل معها الصغار تحديداً تعجّ بمقارنات كثيرة بين النازيين والروس، وتتضمن بعضها مقاطع تتهكم على الروس وتتحداهم. ويلاحظ أن منصتي ألعاب "روبلوكس" (عالم ألعاب عبر الإنترنت) و"تيك توك" تحتويان على مقاربات وصور تضع الروس في مراتب النازيين الألمان.
أماكن روسية مهجورة
وكانت روسيا اتهمت، قبل غزوها أوكرانيا، الغرب بمحاولة خلق أجواء رهاب ضدها، لكن الحنق عليها فرض نفسه بعد الغزو مع توالي تدفق اللاجئين من أوكرانيا إلى دول الجوار، ونشر وسائل الإعلام صوراً ولقطات لاستهداف المباني المدنية، وتسليطها الضوء على معاناة الأطفال والنساء، وبينها لحامل قتلت مع جنينها في القصف.
وإذا كانت السياسة الأوروبية والأميركية، ذهبت إلى ما يشبه التحشيد غير المسبوق بعد بدء الغزو لفرض عقوبات صارمة على شركات وأفراد روس، عبّرت الشوارع الغربية بدورها عن غضب عام من الروس العاديين، مع محاولة النأي بنفسها عن التعاطي معهم، بما يشبه المقاطعة.
وظهر ذلك جلياً في تدهور أعمال أحوال مطاعم ومقاهٍ تحمل أسماء روسية أو أسسها روس، حتى أن بعض مالكيها بادروا إلى قطع وعود بتغيير أسمائها.
وفي مدينة نيويورك، بات مطعم ومقهى "صالون الشاي الروسي" الشهير الذي أسسه مهاجرون روس عام 1927، وتحوّل إلى ملتقى يعجّ بالزوار من سكان المدينة وصفوتها، أشبه بمكان مهجور اليوم. وأفادت وسائل إعلام أميركية بأن مدينة سان دييغو تشهد ابتعاد الناس عن مطعم "روسيا هاوس" الشهير المتخصص في تقديم أطباق من مختلف الجمهوريات السوفييتية السابقة. ونقلت مجلة "تايم" عن صاحب المطعم أرميني الأصل أيكي غازاريان قوله إنه تلقى نحو 20 مكالمة تهديد، وحطم أشخاص واجهة المطعم رغم أنها تتضمن علماً أميركياً كبيراً. كذلك شهدت العاصمة الأميركية واشنطن، عمليات تخريب لمطاعم تحمل أسماء مرتبطة بالروس، في حين غيّر مطعم "روسيا هاوس" في تكساس اسمه إلى "هاوس" فقط، من دون أن يمنع ذلك تعرضه لتهديد وتحطيم واجهته. وحتى في اليابان، استهدفت سلسلة متاجر "الساحة الحمراء" وشخصيات من أصول روسية.
أهداف كنسية
وفي كندا، امتد الاستهداف إلى كنائس أرثوذكسية روسية عبر سكب طلاء أحمر على جدرانها، وهو ما حصل في مدينتي كالغاري وفيكتوريا، إضافة إلى دار الثقافة الروسية في فانكوفر التي رسم علم أوكرانيا على جدرانها، لكن ذلك لم يمنع عضو مجلس إدارتها أوكرانية الأصل ناتاشا كوفالتشوك من القول: "صدمني التخريب واستهداف الروس".
ونقل موقع "غلوبال نيوز" الكندي عن كاهن كنيسة كالغاري، ديميتري غريغوريف، قوله: "أدعو الرعية الأرثوذوكسية الروسية إلى تجاهل التخريب المتعمد وعدم الرد عليه، إذ لا يفترض أن نحمل قلوبنا الكراهية والغضب ضد الآخرين، فمن المهم عدم الحكم على أي شخص وعدم نشر الكراهية".
مقاطعة ثقافية
وفي أوروبا، وصلت حمى المقاطعة الرياضية والثقافية والفنية لكل ما هو روسي، حدّ منع مشاركة روسيين في مسابقة مهرجان الأغنية الأوروبية التي تستضيفها مدينة تورينو الإيطالية في مايو/ أيار المقبل. وترافق هذا المنع مع تسريب شائعات عن أن الأوكرانيين سيفوزون هذا العام بفضل التصويت المتعاطف للأوروبيين. أيضاً، استبعدت أكاديمية السينما الأوروبية الأفلام الروسية من مهرجاناتها لهذا العام.
ومع تغلغل المشاعر المعادية للروس في بعض مجتمعات الغرب، ما يذكّر بحال المسلمين بعد اعتداءات "11 أيلول" على الولايات المتحدة عام 2001، والتي تكررت مع كل هجوم إرهابي استهدف الغرب، وعززها تحريض اليمين المتطرف بتعميمه، يستعيد سكان دول شرق القارة الأوروبية التي عاشت في كنف ورعاية الاتحاد السوفييتي السابق، كراهيتهم للروس خصوصاً أن ذكريات التدخل العسكري الروسي، سواء في المجر 1956 أو جمهورية التشيك عام 1968 لا تزال جزءاً من تاريخ الذاكرة الجماعية لمجتمعاتهم.
حرف "زد"
وفيما ينتشر "الغضب المكتوم" بين مواطني دول البلطيق الثلاث لاتفيا وليتوانيا وأستونيا التي تضم أقليات كبيرة ناطقة بالروسية، كان لافتاً تنظيم مسيرات حدودية وضعت حرف "زد" على السيارات للتضامن مع الجيش الروسي، ما جعل مراقبين في هذه الدول يبدون خشيتهم من أن يؤدي شحن الأجواء إلى انقسامات خطرة في المجتمعات الصغيرة بالبلطيق، خصوصاً مع تزايد التكهنات بأنها قد تكون الهدف التالي للآلة العسكرية الروسية بعد أوكرانيا، انطلاقاً من قدرة موسكو على استغلال وجود الأقليات الناطقة بالروسية، وإمكان تبرير تحركاتها باعتبارها "تهدف إلى حماية الناطقين بالروسية".
من هنا لا تبشر الأجواء بتفاؤل كبير بالنسبة إلى العلاقات مع الجاليات الروسية في أكثر من دولة في أوروبا الشرقية. ولم يتردد رئيس الوزراء في جمهورية التشيك، بيتر فيالا، في منع حصول روس على تأشيرة دخول إلى بلده، علماً أن حوالى 5 آلاف روسي يقيمون في البلاد.
وكشفت وسائل إعلام محلية وأوروبية أن كراهية الروس في جمهورية تشيكيا انتقلت إلى المدارس، حيث تعرض تلاميذ لاعتداءات. وأظهرت بعض المطاعم والمقاهي مواقف أكثر تطرفاً وعنصرية عبر وضع لافتات على نوافذها تفيد بأن الروس "غير مرحب بهم". واشترطت بعضها في براغ تحديداً أن يدين الزوار الروس رئيسهم بوتين ويعتذروا علناً عن أفعاله.
دعوات لترحيل الروس
وكان النائب البريطاني المحافظ روجر جيل أكد أن بلاده يجب أن ترحّل كل الروس بسبب الغزو، "حتى لو أثّر ذلك على الروس الطيبين والصادقين"، بحسب ما أبلغ صحيفة "إندبندنت" الأسبوع الماضي.
ورصدت مواقف شبيهة في الولايات المتحدة تدعو إلى ترحيل الروس، إذ اقترح إريك مايكل سوالويل الذي يشغل منصب ممثل منطقة الكونغرس الخامسة عشرة في كاليفورنيا، طرد جميع الطلاب الروس من الجامعات الأميركية فوراً، ما أثار انتقادات لاذعة، واجهها سوالويل بالإصرار على اقتراحه الذي وصفه بأنه "وسيلة تدخلات لعزل روسيا وتوجيه رسالة إليها بأنها دولة منبوذة".
ويحفل التاريخ الأميركي باستهداف مواطني دولة أخرى، كما حصل مع اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية الذين تعرضوا إلى ما يشبه اعتقالاً جماعياً وحملات تضييق وفرض إقامات جبرية عليهم، وهو ما حصل مع الألمان أيضاً. كما تعرض أنصار الشيوعية في الولايات المتحدة، أو المتهمون بأنهم يوالون الاتحاد السوفييتي السابق، إلى حملة أجبرت مئات منهم على ترك وظائفهم أو فصلهم عن عملهم بلا دليل على التهم التي وجهها إليهم مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي).