لم يكن متوقعاً أن يتحوّل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والتداعيات البيئية لذلك، إلى محور أساسي في مؤتمر الأطراف بشأن تغير المناخ "كوب 28" المنعقد في دبي، والذي يختتم أعماله الثلاثاء، حيث يحتل الوقود الأحفوري لب المحادثات. والإنجاز المتعلق بدفع تكاليف الأضرار الناجمة عن العواصف والجفاف بسبب تغير المناخ لن يخدم غزة في واقعها المأساوي الحالي.
لنبدأ من العام. ما هو تأثير الحروب على تغير المناخ؟ أظهر تقرير صادر عام 2022 كمساهمة في مفاوضات المناخ خلال كوب 27، وبالتعاون مع مرصد النزاعات والبيئة (CEOBS)، أن البصمة الكربونية العسكرية العالمية تبلغ نحو 2750 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون (كمية ثاني أكسيد الكربون، من حيث الوزن، المنبعثة في الغلاف الجوي، والتي من شأنها أن تنتج نفس التأثيرات الإشعاعية التقديرية لوزن معين من غاز آخر نشط إشعاعياً)، أو 5.5 في المائة من الانبعاثات العالمية. وتشير التقديرات إلى أن حرائق النفط خلال حرب الخليج عام 1991 ساهمت بأكثر من 2 في المائة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من الوقود الأحفوري على مستوى العالم في ذلك العام. وبحسب مرصد النزاعات والبيئة، تنشأ الانبعاثات الرئيسية من البنية التحتية المتضررة، وفقدان الغطاء النباتي، وتقديم المساعدات الإنسانية.
بالعودة إلى كوب 28، تشير وكالة "فرانس برس" إلى أن الدول والمناطق الغارقة في نزاعات مسلّحة تحاول تسليط الضوء على مساهمة الحروب في مفاقمة تداعيات تغيّر المناخ. بالإضافة إلى الحروب، يواجه قطاع غزة وأوكرانيا واليمن وسورية ندرة المياه والجفاف وتقلص الأراضي الزراعية واحتراق الغابات والفيضانات. في الجناح الفلسطيني في مدينة "إكسبو دبي"، وهو الأول من نوعه في مؤتمر دولي للمناخ، كُتب على الجدران "حقوق المناخ: على الطرف الآخر"، في إشارة إلى إسرائيل.
وتقول عضوة الوفد الفلسطيني في المؤتمر وخبيرة المناخ هديل خميس: "خطط مكافحة تغير المناخ وُضعت بناء على ما كان موجوداً على الأرض، لكن لم يتبقَ أي شيء" في قطاع غزة منذ بدء العدوان. تضيف: "هُدمت البنية التحتية من محطات تحلية مياه البحر ومحطات معالجة المياه العادمة ومحطات حصاد مائي وآبار".
بدوره، يؤكد رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر روبير مارديني أن "بعض المشاريع الصغيرة المدعومة من اللجنة ساعدت في السنوات الماضية المجتمعات المحلية في مواجهة عواقب تغير المناخ"، مضيفاً: "للأسف، توقفت هذه المشاريع الآن" نتيجة الحرب. ويشير إلى أن "قطاع غزة هو المكان الذي تشكّل فيه موارد المياه المتضائلة وتردّي جودة المياه والظواهر المناخية غير المتوقعة تحدياً فعلياً"، موضحاً أن هذا يؤثر على "جودة المحاصيل الزراعية والأمن الغذائي".
يُشار إلى أن المبعوث الإسرائيلي للمناخ جدعون بحار رفض، على هامش المؤتمر، الربط بين الحرب والمسائل المناخية، قائلاً إنه "ينبغي للمرء أن يفرّق بين القضايا الجيوسياسية والمناخية".
أزمات متراكمة
قبل أشهر قليلة على بدء العدوان الإسرائيلي على القطاع، حذر مركز الميزان لحقوق الإنسان من مخاطر استمرار تردي الوضع البيئي في قطاع غزة "الذي يفتقر لمكونات البيئة النظيفة والصحية". وبحسب المركز، تظهر مشكلة النفايات الصلبة كواحدة من المشكلات الكبرى التي تواجه سكان قطاع غزة، وتقدر كمية النفايات الصلبة الناتجة في القطاع بنحو ألفي طن يومياً، وتكمن المشكلة في عدم وجود مكبات تكفي للتعامل الآمن مع النفايات بشكل يحمي المواطنين من مخاطرها، ولا سيما المواد البلاستيكية. ويحتاج قطاع غزة فعلياً إلى مكبين صحيين رئيسيين، في الوقت الذي يتوفر فيه مكب واحد فقط تنطبق عليه الشروط الصحية والبيئية في خانيونس.
وأبرز المركز تواصل معاناة سكان قطاع غزة في الحصول على مياه مأمونة وكافية "وينخفض استهلاك الفرد الفلسطيني عن الحد الأدنى بحسب معايير منظمة الصحة العالمية البالغ 100 لتر في اليوم جراء القيود الإسرائيلية واستمرار السيطرة على أكثر من 85 في المائة من المصادر المائية الفلسطينية".
وهناك مشكلة معالجة مياه الصرف الصحي، وتطاول الهجمات الإسرائيلية أيضاً شبكات ومضخات مياه الصرف الصحي وشبكات الطاقة الكهربائية، الأمر الذي يعرقل عمليات معالجة مياه الصرف الصحي. وأشار المركز إلى اضطرار بعض البلديات في قطاع غزة إلى ضخ مياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى البحر.
وفي الحروب السابقة، دمرت إسرائيل مئات الدفيئات الزراعية (خيم مصنوعة من مواد شفافة منفذة لأشعة الشمس، وتكون أحياناً ذات هيكل معدني أو خشبي تزرع بداخلها النباتات) والأراضي الزراعية.
نفايات صلبة
ماذا أحدث العدوان الإسرائيلي على غزة بيئياً؟ يقول رئيس برنامج تغير المناخ والبيئة في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، نديم فرج الله، لـ "العربي الجديد"، إنّ "تأثيرات الحرب على البيئة وتغير المناخ طويلة المدى". ويوضح أنّه "استناداً إلى خبرتي من جراء الحروب التي شهدها لبنان، وخصوصاً حرب عام 2006، أكبر مشكلة بيئية ستواجهها غزة هي حجم الدمار والردم. والسؤال هو: ماذا نفعل بأنقاض المباني المدمرة والمواد الخرسانية، علماً أن مساحة القطاع صغيرة؟". وهنا، يشير إلى أن إعادة التدوير ليست صعبة لكنها ليست سهلة في الوقت نفسه. بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، أُعيد تدوير الحديد ورُميت بقية أنقاض المنشآت في البحر. ويوضح أنه في ورقة بحثية أعدّها بالتعاون مع طالبته إيليني عساف، تبين أن طحن هذه المواد الخرسانية وجبلها مع التُربة قد تستخدم لإعادة تأهيل المقالع والكسارات والمناطق المحفورة بالأرض.
ويُشدّد فرج الله على أن الأزمة الآنية هي المياه المبتذلة، علماً أن غزة كانت تعاني ما قبل العدوان الأخير، وقد تسربت المياه المبتذلة إلى المياه الجوفية. وكانت محطات معالجة المياه المبتذلة تعمل بشكل متقطع، الأمر الذي يتطلب معالجة سريعة، وخصوصاً بعدما دمر القصف محطات تنقية المياه. ويُشير إلى أن البيئة البحرية مهدّدة بشكل كبير جراء المياه المبتذلة والنفايات الصلبة الخرسانية. يشار إلى أن 97 في المائة من مياه غزة غير صالح للشرب، لأنها مياه مالحة بسبب استنزافها واختلاطها بماء البحر، وملوثة بنسب عالية جداً بالنترات والكلورايد بسبب مخلفات القصف والدمار وتسرب مياه الصرف الصحي إليها.
من جهة أخرى، يلفت فرج الله إلى أن النفايات في القطاع تحتاج إلى معالجة قبل رميها. في الوقت الحالي، النفايات في الطرقات، وكلما زادت تصبح معالجتها أكثر صعوبة وستنقل إلى مكب، وقد تتسرب عصارة النفايات إلى المياه الجوفية. وتؤدي مكبات النفايات إلى انبعاث غاز الميثان وثاني أكسيد الكربون، وهما من غازات الدفيئة التي يلعب ارتفاعها دوراً في الاحتباس الحراري ورفع درجة حرارة الكوكب على المدى البعيد، لكن النسبة في غزة قليلة جداً وبالتالي التأثير محدود. يضاف إلى ما سبق، بحسب فرج الله، تلوث الهواء الذي يؤثر على الصحة، إلا أنه آني. ولا ننسى مدى تأثير العدوان الإسرائيلي على الأراضي الزراعية وتقليص مساحتها.
إعادة الإعمار
وحين تبدأ مرحلة إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب، يوضح فرج الله أن هذه العملية ستؤدي حتماً إلى كثرة انبعاثات غازات الدفيئة خلال عمل الآليات والجرافات والمقالع والمرامل وصناعة الخرسانة التي تعد واحدة من أكثر الصناعات المتسببة بانبعاثات غازات الدفيئة. إلا أن الخطر قد يكون أقل في غزة بسبب غياب المعامل. من المهم إعاة إعمار غزة بطريقة صديقة للبيئة، منها خلق مناطق خضراء واستخدام الطاقة المتجددة وإدارة النفايات والمياه المبتذلة.
خلال الأسابيع الأولى للحرب، أسقطت إسرائيل 25 ألف طن من الذخائر على غزة. وتعادل انبعاثات الكربون الناتجة عن ذلك الاستخدام السنوي للطاقة لنحو 2300 منزل، أو انبعاثات غازات الدفيئة السنوية من نحو 4600 سيارة. وفي العام، تستخدم القوات العسكرية الوقود الأحفوري لتشغيل الطائرات والدبابات والأسلحة، ما يمثل نحو 5.5 في المائة من الانبعاثات العالمية.
وفي دراسة بعنوان "خيارات واستراتيجيات التخطيط للمناخ والأمن المائي في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، نشرها العام الماضي أكاديميون من جامعة الأمم المتحدة، تم التأكيد على أن الأراضي الفلسطينية توصف بأنها منطقة تعاني من الحرارة والجفاف وندرة المياه وهي معرضة للخطر. فيما يشير مركز الميزان لحقوق الإنسان إلى أن تأثير تغيرات المناخ لا يتوقف على الموقع الجغرافي للبلدان، بل أيضاً انتهاكات قوات الاحتلال المستمرة والمتصاعدة. على سبيل المثال لا الحصر، أدى استهداف خطوط تجميع مياه الأمطار إلى فيضانات أدت إلى انجراف المزروعات والتربة في بعض المناطق، وارتفاع منسوب المياه في الشوارع والمرافق العامة والخاصة.
حالياً، تستمر حرب الإبادة في غزة وسط صمت دولي بل قبول بزيادة أعداد الضحايا المدنيين، وغالبيتهم من الأطفال والنساء. وسط هذا، فإن الواقع البيئي في هذه البقعة الجغرافية لن يكون له أدنى أهمية.