حتى وقت قريب، آمن الهنود بأن بلدهم "انتصر على كورونا"، وأنّ "مناعة القطيع تحقّقت"، قبل أن تكشف الأيام القليلة الماضية عن حجم الكارثة التي وصلت إليها البلاد، في ظل التفشي الكبير للفيروس ومتحوراته، ومن بينها المتحور الذي ظهر في الهند، قبل أن تبدأ السلطات الصحية في قرع أجراس الإنذار، في بلد يتجاوز عدد سكانه 1.3 مليار نسمة، حصل منهم 15 مليون نسمة فقط على اللقاحات المضادة للفيروس، بحسب عدد من الصحف الهندية، من بينها "هندوستان تايمز" و"إنديا توداي". في الوقت نفسه، كانت نيودلهي ترسل شحنات لقاح كورونا المصنّع محلياً إلى بعض الدول في أفريقيا وآسيا.
وسجلت البلاد أكثر من مليون إصابة جديدة خلال الأيام الثلاثة الماضية. وفي غضون 12 يوماً فقط، تضاعف معدل الحالات الإيجابية إلى 17 في المائة، بينما وصل في دلهي إلى 30 في المائة، الأمر الذي أدى إلى امتلاء المستشفيات في جميع أنحاء البلاد بطاقتها القصوى، لكن هذه المرة، وبحسب صحيفة "الغارديان" البريطانية، فإن الشباب هم الذين يستولون على الأسرّة، وليس كبار السن. وتشير الإحصائيات إلى أنه في دلهي وصل عدد الشباب الذين تقل أعمارهم عن 40 عاماً، والذين دخلوا المستشفيات، إلى 65 في المائة من إجمالي المرضى. وتُشير الصحافة الغربية إلى أنّ ما يجري في الهند، خلال الأيام الماضية، هو أشبه بـ "تسونامي كورونا". ووجد المواطنون أن مستشفياتهم ونظامهم الصحي، الذي يعاني أصلاً بسبب هشاشة بنيته التحتية، باتوا على وشك الانهيار. وليس نقص الأكسجين المعضلة الوحيدة في هذا البلد الفقير، بل إن المستشفيات لم تعد قادرة أيضاً على استقبال المصابين، وباتت الجثث تُحرق في إطار طقوس الدفن الهندوسية، في مواقف السيارات. يشار إلى أن مساحة المقابر في دلهي نفدت، في الوقت الذي كانت المحارق الجنائزية تضيء سماء الليل في مدن أخرى تضررت بشدة. في وسط مدينة بوبال، زادت بعض محارق الجثث من قدرتها من عدة محارق إلى أكثر من 50 محرقة. وقال العمال في محرقة بهادهادا فيشرام غات في المدينة إنهم أحرقوا أكثر من 110 أشخاص يوم السبت الماضي، وهو ما دفع مامتيش شارما، المسؤول في المحرقة، إلى اعتبار الفيروس أشبه بـ "الوحش".
حرج
وتجد حكومة البلاد القومية اليمينية المتشددة بزعامة ناريندا مودي نفسها هذه الأيام في موقف حرج، بعد إعلان الأخير "الانتصار" المبكر على كورونا، وإصراره على استكمال حملاته الانتخابية في مختلف الولايات الهندية. كما ساهم تدفق الملايين للاحتفال بأعياد هندوسية، والتي تشمل طقوس الغطس والاستحمام في نهر غانجي والسفر إلى شمال البلاد من قبل ملايين الحجاج، على ما تذهب وسائل إعلام أوروبية وهندية، في تفاقم أعداد الإصابات، خصوصاً مع تراخي الإجراءات الوقائية. ويتذكر العالم مشاهد الشرطة الهندية في ربيع 2020، حين بدأت بتطبيق إجراءات الوقاية، وتشددها في العقوبات مع الذين خرقوا الإجراءات، من بينها حظر التجول ووضع الكمامة. لكن مشهد إبريل/نيسان 2021 ليس كما كان قبل عام. ويعترف مودي بأنه "كان لدينا شعور جيد بعدما تعاملنا مع الموجة الأولى بنجاح. لكن هذه العاصفة هزّت الأمة"، كما قال في كلمة إذاعية، أول من أمس الأحد، وفقاً للموقع الرسمي لرئاسة الحكومة الهندية.
وعلى الرغم من محاولة مودي، الساعي للفوز في الانتخابات لطمأنة شعبه، إلا أنه لا يمكن تجنب المشاهد المؤلمة لطوابير البشر الساعين لملء قوارير الأكسجين لإنقاذ ذويهم، بعدما عجزت المستشفيات عن تأمينه. ووصفت وكالة "بلومبيرغ نيوز" المشهد بأنه مروّع ويحطم القلوب، مع تساقط الضحايا واتساع نطاق الإصابات والعجز شبه التام للقطاع الصحي. ويخشى على نطاق واسع، وفقاً للصحافة الهندية الناطقة بالإنكليزية، من أن يؤدي الإغلاق الشامل إلى انتقال الملايين من العمالة في المدن الكبيرة إلى ولاياتهم الأصلية، ما يعني نقل العدوى معهم.
والفيديوهات المنتشرة عن الفوضى خارج مستشفيات الهند، حيث يتجمع الناس ومعهم أسطوانات الأكسجين، تعكس مأساة كبيرة في ظل تصاعد أعداد الإصابات بشكل غير مسبوق، وتشمل كل أنحاء الهند، في ظل تحرك الملايين ذهاباً وإياباً خلال موسم الأعياد الفائتة. ونفد الأكسجين من مستشفيات كثيرة، الأمر الذي دفع رئيس حكومة إقليم دلهي، مانيش سيسوديا، إلى توجيه نداء استغاثة لوزارة الصحة الهندية، التي بدت بدورها عاجزة عن متابعة الوضع رغم محاولة المصانع الكبيرة تحويل إنتاجها إلى الأكسجين. كما أُطلق قطار سريع سمي "أكسجين إكسبريس" لنقل الأكسجين من ولاية أندرا براديش. من جهة أخرى، فإن نقص الأكسجين دفع التجار إلى استغلال الأزمة وبيعه في السوق السوداء بأسعار خيالية، وفقاً لتقرير لإذاعة "بي بي سي" البريطانية. وأدى نقص الأكسجين، وارتفاع أعداد الإصابات، إلى مرافقة سيارات الشرطة للشاحنات التي تنقل الأكسجين المسال إلى بعض المستشفيات، التي لم تعد قادرة على استقبال المرضى.
استغاثة
تعد ولاية مهاراشترا من الأكثر تضرّراً، وقد أصيبت بضربة مؤلمة صباح يوم الجمعة الماضية أيضاً، حيث شب حريق في مستشفى توفي نتيجته 13 مريضاً بكورونا. وتستمر مشاهد الفوضى خارج المستشفيات المزدحمة، بسبب الذعر الذي دب في البلاد، بعد الاعتقاد بأن الهند تجاوزت كورونا. ويتكرّر مشهد الأهالي وهم يتوسلون إدخال أحد الأقارب الراقدين على الأرصفة إلى المستشفيات التي تعاني بسبب عدم وجود أسرّة كافية، كما تنقل الصحافة الهندية. ووصل الصراع على الأكسجين، بحسب تقرير مشترك لصحيفتي "الغارديان" و"إنفورماسيون" الدنماركية، إلى اتهامات متبادلة حول منع بعض الولايات من نقل الأكسجين إلى خارجها، خصوصاً إلى دلهي.
الاستغاثة تحولت إلى ما يشبه نداء وطنياً. وقد دخلت العديد من الدول والشعوب على الخط، وكان ملفتاً موقف الجار الباكستاني، علماً أن البلدين مصنفان كعدوّين لدودين. فقد طالب مواطنون باكستانيون حكومة بلادهم بإمداد الجارة الهند بالأكسجين. وتحول ذلك الطلب إلى "تريند" على تويتر، بحسب ما نقلت "إنديا توداي" الهندية. ويتجاوز تأثير كورونا الهند حدود البلاد، فمع تسارع أخبار تحوّر الفيروس وانتشاره بهذا الشكل الواسع، أعلن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى منها بريطانيا وفرنسا، عن الاستعداد لتقديم كل ما أمكن لمساعدة البلد من أجل السيطرة على الجائحة. فالهند، عدا عن أنها بلد منشأ لكثير من الصناعات المتجهة إلى أوروبا وغيرها، فهي تضم المعهد الهندي للأمصال، أكبر مصنّع للقاحات في العالم. وتنتج بريطانيا لقاح كورونا في مصانع هندية، كما تفعل دول أخرى، وهو ما يعتبره أستاذ الصحة في جامعة كوبنهاغن، فليمنغ كونرادسن، بحسب تصريحه للتلفزيون الدنماركي، بأنه "يثير مخاوف من كوارث إنسانية عالمية نتيجة ما يجري في الهند، وبالأخص لناحية تصدير اللقاحات والمنتجات الطبية لمواجهة كورونا".
وبرأي كونرادسن، فإن منع خروج ما تصنعه الهند من لقاحات "سيؤثر بالتأكيد على مبادرة كوفاكس (التي تهدف إلى تأمين لقاحات كورونا لـ 92 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل)، وعدد من البلدان التي تعتمد على إمدادات اللقاحات. وسيؤثر ذلك بشكل خاص على دول أفريقيا وأميركا اللاتينية وبريطانيا التي تنتج لقاح "أسترازينيكا" في الهند، الأمر الذي يجعل إيصال اللقاحات أبطأ مما كان عليه أصلاً. ونتيجة للأزمة، تم تحويل الجرعات لتلبية احتياجات الهند. وشحنت الهند هذا الشهر 1.2 مليون جرعة فقط إلى الخارج، مقارنة بـ 64 مليون جرعة في الأشهر الثلاثة السابقة. في مارس/آذار الماضي، كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" أن "البطء يشمل الهند نفسها التي لم يتلق فيها أكثر من 15 مليون إنسان اللقاح من بين 1.3 مليار نسمة". كما أشارت تقارير أوروبية وأميركية، في وقت سابق، إلى أن الهند كانت مصدراً لنحو 70 دولة استوردت منها اللقاح. لذلك، تحاول الدول الكبيرة الإسراع إلى مساعدة الهند على تخطي هذه الأزمة. وبدأت المملكة المتحدة في إرسال أجهزة التنفس الصناعي وأجهزة تركيز الأكسجين. وغادرت الشحنة الأولى من المساعدات البلاد أول من أمس، ومن المقرر أن تصل اليوم إلى الهند.
قنبلة موقوتة
من جهة أخرى، لا يستبعد تقرير لـ "بي بي سي" أن يكون تأثير هذه الحالة الهندية المتصاعدة سلبياً على حكومة مودي، ويشير إلى أن حكومة مودي "استخدمت كورونا كنوع من التسويق الدبلوماسي. في أوائل مارس/آذار الماضي، أعلن وزير الصحة الهندي هارش فاردان أن البلاد تقترب من نهاية وباء كورونا"، مستعرضاً بأن رئيس الوزراء ناريندرا مودي وصفها بأنها "نموذج للعالم في التعاون الدولي". ومنذ يناير/كانون الثاني الماضي، بدأت نيودلهي إرسال اللقاحات إلى دول أجنبية كجزء من "دبلوماسية اللقاح" التي يتبجح بها كثيراً. تفاؤل حكومة مودي يستند على ما يبدو إلى انخفاض أعداد المصابين في منتصف فبراير/شباط إلى 11 ألف حالة فقط، مقارنة بنحو 93 ألف حالة في اليوم، في سبتمبر/أيلول 2020، ومع معدل وفيات وصل في المتوسط إلى أقل من 100. بدا وكأن الهنود نسوا أنهم يعيشون وسط قنبلة موقوتة. وساهمت وسائل الإعلام المحلية في ترويج فكرة انتصار حكومة مودي على الوباء "من خلال عجرفة قومية"، كما ذهب تقرير لصحيفة "بيزنس ستاندرد" الهندية. وتحدّث مراسل "بي بي سي" سوتيك بيساوس، في تقرير، عن تعاطي إعلام بلاده بـ "نشوة المنتصر" على الوباء، وقد أطلق على مودي لقب "خبير اللقاحات". ويخشى خبراء غربيون في مجال مكافحة الجائحة أن يشكل انتشار الفيروس في الهند بأشكاله المتحورة وتسجيل آلاف الوفيات يومياً عائقاً جديداً أمام محاصرة الجائحة.