أفادت منظمة الصحة العالمية أخيراً بأنّ تونس تسجّل عدد الوفيات الأكبر بكوفيد-19 في المنطقة العربية والقارة الأفريقية، واصفة وضعها بالصعب جداً ومحذّرة من تفاقمه. وشدّدت في الإطار على حاجتها إلى المساعدة.
ما زالت الأزمة الوبائية تلقي بظلالها على تونس وعلى تفاصيل الحياة فيها وعلى يوميات المواطنين، نتيجة موجة خامسة من وباء كورونا تضرب البلاد بطريقة غير مسبوقة لتخلّف خسائر كبيرة في الأرواح. وسط ذلك، تحارب السلطات الصحية على أكثر من جبهة من أجل الحدّ من الوفيات الناجمة عن الإصابة بفيروس كورونا الجديد ومنح أكبر عدد من المصابين به فرصاً للتعافي، على الرغم من شحّ الأوكسجين في البلاد.
وقد استنفرت صور صادمة من المستشفيات التونسية، المجتمع الدولي ودولاً صديقة وشقيقة، الأمر الذي دفع إلى محاولة تلك الجهات التخفيف من معاناة التونسيين. وبالفعل حصلت تونس على نحو ثلاثة ملايين جرعة من اللقاحات المضادة لكوفيد-19، بالإضافة إلى معدات ومستلزمات طبية ومستشفيات ميدانية، قدّمتها كلّ من قطر والسعودية ومصر والجزائر والإمارات العربية والولايات المتحدة الأميركية والصين وفرنسا.
وبعدما "هزمت" تونس الفيروس في عام 2020، عادت إلى دائرة الخطر بعد 12 شهراً لتسجّل في خلال يوليو/ تموز الجاري أرقاماً قياسية في الإصابات، لحقتها أخرى في الوفيات اليومية بلغت 194 وفاة، هو أعلى رقم تسجّله البلاد بعد عام ونصف عام من إعلان الإصابة الأولى بالفيروس. وتعيد السلطات الصحية انفجار الوضع الوبائي بشكل مفاجئ إلى انتشار متحوّرات فيروس كورونا الجديد، لا سيّما متحوّر "دلتا" الذي ظهر للمرة الأولى في الهند وطغى على بقية المتحوّرات، ليس فقط في تونس، إنّما في كلّ أنحاء العالم. يُذكر أنّ ذلك المتحوّر من الفيروس يتسبّب في حالات أكثر خطورة تطاول الأشخاص من كلّ الفئات العمرية، بما في ذلك الأطفال، إلى جانب الذين تلقّوا جرعات من اللقاح أو أصيبواً سابقا بالعدوى.
ويحذّر المعنيون جميعاً من تدهور الوضع، في حين يختلف تقييمهم له. ففي حين يرى بعض هؤلاء أنّ النظام الصحي انهار كلياً، يحكي آخرون عن مبالغة في توصيف الوضع. لكنّ الواقع يصوّر مستشفيات تلفظ مصابين يبحثون عن جرعات أوكسجين ومساعدة طبية في رحلة شاقة ما بين القطاعَين الحكومي والخاص.
تقول وزيرة الصحة السابقة وطبيبة الأمراض الصدرية، سميرة مرعي، إنّ "الأطباء في الخطوط الأمامية في وجه الوباء يُفاجأون يومياً بمستجدات تتعلق بالإصابات التي صارت أكثر خطورة وسرعة في التفاقم، ما تسبّب في إغراق تام لأقسام الطوارئ من قبل مصابين يعانون من تعكّرات صحية مفاجئة". تضيف مرعي لـ"العربي الجديد" أنّ "الأقسام المخصصة لكوفيد-19 وأقسام الطوارئ تخطّت قدرة استيعابها بأكثر من 200 في المائة، غير أنّ المنظومة الصحية في البلاد ما زالت قائمة وتقاوم"، مشدّدة على "ضرورة اعتماد منظومة جديدة في مكافحة الفيروس تعمل على خفض نسب الإصابة وزيادة عدد المحصّنين، لرفع مستوى المناعة العامة (المجتمعية) إلى أكثر من 70 في المائة". وتؤكد مرعي أنّ "المنظومة الصحية سوف تظل تقاوم ولن تُهزَم في حربها ضدّ الوباء، بفضل جهد العاملين المتسلحين بما راكموه من خبرة في خلال تجربة عام ونصف عام من مقاومة الفيروس".
وكان تصريح إعلامي لمديرة مرصد الأمراض الجديدة والمستجدة نصاف بن علية عن انهيار المنظومة الصحية في تونس، الأسبوع الماضي، قد أحدث هزة كبيرة طاولت التونسيين والسلطات في البلاد. لكنّ وزارة الصحة سارعت إلى تصويب الأمر في بيان توضيحي توجّهت فيه إلى الرأي العام، أفادت فيه بأنّ المنظومة ما زالت قائمة وقادرة على تقديم العلاج على الرغم من تجاوزها طاقتها القصوى.
وفي هذا الإطار، يؤكد مدير عام الهياكل (الكوادر) الصحية في وزارة الصحة، نوفل السمراني، أنّ "الوزارة تواصل العمل على زيادة طاقة المستشفيات ومنع انهيار المنظومة الصحية"، شارحاً أنّ "عدد أسرّة الإنعاش في القطاع العام ارتفع من 95 سريراً إلى 500 حالياً، كما ارتفع عدد الأسرّة المزوّدة بأجهزة تنفس صناعية من 450 سريراً إلى ثلاثة آلاف". يضيف السمراني لـ"العربي الجديد" أنّ "المستشفيات صارت تستهلك يومياً 180 ألف ليتر من الأوكسحين في مقابل 30 ألفاً قبل الوباء"، مشيراً إلى أنّ "التصرف في مخزون الأوكسجين جهد مرهق لضمان حقّ المرضى في هذه المادة الحيوية".
وتستمر منذ أسابيع معاناة المصابين بكوفيد-19 وأسرهم في رحلات البحث اليومية عن جهاز تنفّس صناعي للإيجار، أو سرير إنعاش في واحد من المستشفيات. وهؤلاء يضطرون إلى اجتياز مئات الكيلومترات أحياناً في مركبات الإسعاف بحثاً عن سرير شاغر.
ليليا عزيّز من هؤلاء، تروي لـ"العربي الجديد" معاناتها من أجل إنقاذ والدتها من موت محقّق بعد إصابتها بالعدوى. تقول: "اضطررت إلى تقديم شيك مصرفي إلى إحدى المصحات الخاصة بقيمة 30 ألف دينار تونسي (نحو 12 ألف دولار أميركي) على الرغم من عدم كفاية الرصيد، في مقابل توفير سرير إنعاش لوالدتي". تضيف: "بقيت أكثر من ثلاث ساعات في مركبة إسعاف برفقة والدتي أتنقل بين المستشفيات العمومية في العاصمة بحثاً عن سرير، لكنّ جهودي كلها باءت بالفشل. وكان الرد دائماً: لا يتوفّر أيّ سرير شاغر". وتتابع أنّه "وسط الألم والحزن والإحباط، اضطررت إلى قبول الأمر الواقع وإدخال والدتي إلى مصحة خاصة من دون التفكير في الكلفة التي لن تتمكّن عائلتي من تحمّلها". وكما هي حال ليليا عزيّز، فإنّ تونسيين كثيرين، بمن فيهم ذوي الدخل المحدود، يرون أنّه لا مفرّ من تكاليف مرتفعة للعلاج في القطاع الخاص بسبب تجاوز القطاع العام قدرة الاستيعاب القصوى، فهم يخشون فقدان ذويهم.
وفي سياق متصل، قال ممثل منظمة الصحة العالمية في تونس إيف سوتيران، في تصريح إلى وكالة "فرانس برس"، إنّ "أكثر من 100 وفاة تُسجّل في اليوم" في بلد يسكنه نحو 12 مليون شخص، مؤكداً أنّ "هذا حقاً كثير". أضاف أنّ تونس تسجّل عدد الوفيات الأعلى بكوفيد-19 في المنطقة العربية والقارة الأفريقية، وهي تعرف وضعاً صعباً قد يزداد سوءاً. بالتالي، فإنّ البلاد في حاجة إلى مساعدة ولقاحات. ولفت سوتيران إلى أنّ تونس "أكثر شفافية في نشر المعطيات (الخاصة بالوباء) مقارنة بدول أخرى"، وهو ما يعني أنّ "عدد الوفيات الذي تنشره قريب من الواقع، من دون شكّ". لكنّه حذّر من أنّ "الوضع الصحي خطير، وكلّ المؤشرات حمراء". وعلّل ذلك بتفشي الفيروس في كلّ أنحاء البلاد، واصفاً الأمر بأنّه "مقلق جداً"، لا سيّما مع "انتشار متحوّر دلتا (المتحوّر الهندي) شديد العدوى والمتفشي بكثافة".
وتشهد محافظات عدّة اليوم وضعاً وبائياً مقلقاً جداً، كما هي الحال في القيروان (وسط) وسليانة (وسط) وباجة (شمال غرب) وتطاوين (جنوب) والقصرين (وسط)، علماً أنّ وزارة الصحة تصنّف 16 محافظة من مجموع 24 في خانة المحافظات ذات نسبة الخطر المرتفعة. يُذكر أنّ السلطات المحلية تفرض في جلّ هذه المحافظات قيوداً مشددة على حركة تنقّل الأفراد والمركبات، إلى جانب فرض حظر تجوّل ليلي وتقليص التجمعات الخاصة والعامة بهدف كبح العدوى.
ويمثّل الضعف في الحملة الوطنية للتحصين في شهرها الرابع واحداً من الأسباب الرئيسية لتدهور الوضع الصحي في البلاد، بحسب خبراء من منظمة الصحة العالمية وأطباء تونسيين يحذّرون من تداعيات تباطؤ عمليات التحصين على البلاد وصحة المواطنين مع تسارع انتشار متحوّرات الفيروس.
وفي هذا السياق، ينتقد طبيب الإنعاش ماهر العباسي فشل سياسة التحصين في بلاده، مؤكداً أنّ "التأخير في توفير اللقاحات المضادة لكوفيد-19 من أبرز أسباب الكارثة الصحية في البلاد". ويقول العباسي لـ"العربي الجديد": "عندما كان الأطباء ينادون بالانخراط في التجارب السريرية للقاحات ومراسلة المختبرات العالمية من أجل ضمان حصة تونس من تلك اللقاحات، كانت السلطة السياسية منشغلة في صراعاتها"، لافتاً إلى أنّ "التونسيين يدفعون غالياً من صحتهم ثمن تأخّر حملة التحصين". ويؤكد العباسي أنّ "كل تأخير في التحصين يعني آلاف الموتى الجدد"، منبّهاً من "خطورة موجات وبائية قاتلة في الأشهر المقبلة، ما لم تتمكّن السلطات من تحصين أكثر من 70 في المائة من التونسيين، بما في ذلك الأطفال الذين باتوا في مرمى متحوّر دلتا".
تفيد البيانات الرسمية لوزارة الصحة أنّه حتى 12 يوليو/ تموز الجاري، تلقّى 650 ألف تونسي جرعتَين من اللقاح، فيما تلقّى أكثر من مليون آخرين جرعة واحدة، وذلك من مجموع 3.3 ملايين شخص مسجّلين في قائمة منصة التحصين الإلكترونية. تجدر الإشارة إلى أنّ تونس تعيش على وقع أزمة سياسية تؤثّر في اتخاذ القرارات وفي ثقة التونسيين بالسلطة الحاكمة. وفي حين كان قطاع الصحة الحكومي مصدر فخر للتونسيين، صار يعاني من سوء إدارة ونقص في المعدات والتجهيزات التي يسعى المجتمع المدني والمنظمات الأهلية إلى تداركهما عن طريق التبرّعات.
وساعدت ضغوط المجتمع المدني والنشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي، وتسجيل الوفيات بكوفيد-19 معدّلات قياسية، في استنفار السلطات في البلاد وفي تحرّكات دبلوماسية لتوفير المساعدات واللقاحات من دول صديقة وشقيقة لتونس. وهذا ما مكّن من الحصول على وعود بتزويد تونس بثلاثة ملايين جرعة من اللقاحات، بالإضافة إلى 1.6 مليون سوف تحصل عليها عبر عمليات شراء مباشرة، وكذلك عبر مبادرة "كوفاكس" التي تهدف إلى توفير اللقاحات بشكل عادل، في خلال الشهر الجاري.
كذلك ساعد دخول الجيش التونسي على الخط في تكثيف حملات التحصين، بعد إعطاء الرئيس قيس سعيّد الإذن للقوات الطبية العسكرية بإعداد مسح صحي شامل ودخول المناطق النائية والأرياف والصحراء لتحصين المواطنين، بمن فيهم غير المسجلين في قائمة منصة التحصين الرسمية.
بالتوازي، بدأت السلطات الصحية في نشر المستشفيات الميدانية، التي حصلت عليها كمساعدات من دولة قطر والولايات المتحدة الأميركية، في محافظات تونس الكبرى، بهدف تخفيف الضغط عن النظام الصحي واستيعاب المزيد من المرضى. كذلك، مكّنت حملات التطوّع والتبرّع التي ينظمها نشطاء في الداخل والخارج، من توفير آلاف أجهزة التنفّس الصناعي التي وضعت بتصرّف المستشفيات إلى جانب معدّات طبية أخرى.