تتكشف يوماً بعد آخر الآثار المدمرة للزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال غربي سورية، الإثنين الماضي، لناحية عدد الضحايا أو الخسائر المادية، أو لما يصفه أحد الناجين بـ"الموت النفسي".
يقول الناجي محمد حسن، لـ"العربي الجديد": "ربما نجحت في الوصول إلى لبنان، بعدما دمر منزلي في أضنة التركية جراء الزلزال"، مضيفاً "أقول ربما لأني لا أزال أشعر بأنني أهرب من اهتزاز الأرض، رغم أنني بعيد جداً عن مكان الزلزال، بعيد بالمكان والزمان".
علامات التوتر توضح تأثره، بكاء مفاجئ، يعقبه سكوت، ثم كلمات متقطعة، يقول بما يشبه الهمس: "أعجز عن النوم، أصوات صراخ الناس تحت الأنقاض تلاحقني، يخيل إليّ أنهم تحت السرير وأنني أحاول سحبهم، إلا أنهم ينجحون في سحبي". يصمت ويرفض الحديث أكثر، مردداً جملة "أنا ميت نفسياً".
لا إحصاء بعد عن الوضع النفسي لمن نجوا من الزلزال، فيما تختلف تجارب الخسارة المأساوية، إذ إن منهم من خسر بيته، وآخرون خسروا عائلاتهم، وحتى من ساعده الحظ ونجا، بقي حبيس تلك الذكريات.
بعد مرور أيام على الزلزال، يقفز سؤال مهم عن الوضع النفسي للناجين وذوي الضحايا وأيضاً المتابعين والمساعدين في الإنقاذ نفسياً، وهل هناك علاج للاضطرابات.
تشخيص ما بعد الصدمة
تقول المعالجة النفسية في مستشفى بروكسل الجامعي إيفانا ورد، لـ"العربي الجديد": "حتى اللحظة لا نستطيع تشخيص العوارض النفسية للناجين أو المتأثرين نفسياً بفاجعة الزلزال، لأن أحداثه لا تزال قريبة زمنياً".
وتضيف "إلا أن أهم العوارض المصاحبة لهذه الكوارث هي اضطرابات ما بعد الصدمة من القلق والخوف والترقب وعدم الحتمية، وهذه المشاعر جميعها لا تزال مستمرة بفعل القرب الزمني من حدوث الزلزال، لذا يصعب التشخيص لجهة هل هي عوارض مستمرة أو آنية، وحجم عمقها وتعقدها".
أجساد الناس، وخاصة السوريين، لم تنس بعد الاضطرابات السابقة الناجمة عن الحرب المستمرة منذ عام 2011
وتلفت ورد إلى أن أجساد الناس، وخاصة السوريين، لم تنس بعد الاضطرابات السابقة الناجمة عن الحرب المستمرة منذ عام 2011، تحديداً لجهة فكرة الخطر، رغم أن ظروف الحرب مختلفة عن الزلزال، وتوضح أن "الناجين من الحرب يتكون عندهم روتين الحماية من الحرب وظروفها المختلفة، أما الزلزال فهو حدث مفاجئ"، تضيف "من هنا نحن نتعامل مع اضطرابات عميقة ومتراكمة، حتى الصدمات رغم اختلافها إلا أنها عميقة جداً".
وتشير إلى أن "تعريف الصدمة يحمل كمية من المشاعر والأضرار التي تهدد الحياة، ولا يستطيع الجسد أن يتحملها ويتقبلها بوقت سريع، والصدمة قد تستمر طويلاً، وحالة الزلزال ما زالت مستمرة، نظراً لأن الحدث لم ينته لجهة البحث عن مفقودين ومسح الأضرار ودفن الضحايا وعلاج الجرحى".
عوارض نفسية
وفي سياق العوارض النفسية، تلفت إلى شعور البعض بالهزات رغم عدم وجودها. وبحسب ورد، فإن الأمر مرده لعدم الثقة بالإحساس، إذ إن الحدث لم ينته، أي الزلزال وارتداداته وآثاره، لذا الجهاز العصبي للجسد يبقى متنبهاً جداً ويفرز هرمونات خاصة بالخوف كالأدرينالين بشكل غير واع، وأي شيء وأقل شيء يمكن أن يحرض الإحساس ويحاكي الشعور بالهزة، والتي تعني أن الجسد متنبه، وهذا رد فعل طبيعي من أجسادنا تجاه حدث غير طبيعي، ووظيفته الحفاظ على بقائنا نتيجة عدم وجود إحساس بالأمان بعد.
مراحل الحزن الخمس
ومع تجاوز حصيلة القتلى 37 ألفاً، وعشرات آلاف الجرحى، تمتد آثار الزلزال في المجمل إلى ملايين السكان في البلدين، بحسب هيئة إدارة الكوارث التركية، والحكومة السورية. فكيف هو الوضع النفسي لذوي الضحايا؟ لا سيما أن بعضهم خسر كل أفراد عائلته، بشأن ذلك تشرح ورد: "نحن هنا أمام حالتين، الأولى هي حالة من حسم أمر موت ذويه أو أقاربه أو عائلته، وهنا يدخل بمراحل الحزن الخمس، وهي الإﻧﻛﺎر واﻟﻐﺿب واﻟﻣﺳﺎوﻣﺔ واﻻﻛﺗﺋﺎب واﻟﻘﺑول".
تضيف "أما الحالة الثانية، وهي الأصعب من الناحية النفسية، فهي عدم الحتمية، أي حالة من لديه مفقودون، ولا يعلم مصيرهم، وهذه الحالة تحديداً أكثر إيذاء للإنسان".
الساعة الذهبية.. ماء وإضحاك للأطفال
وعن الناجين، تشدد ورد على ضرورة وضعهم في مكان آمن، حيث يبدأ العلاج منذ لحظة انتشالهم وانقاذهم، والمختصون الميدانيون يعلمون أن من المهم في اللحظات الأولى إعطاء الناجي الماء لتهدئة الجهاز العصبي.
كما تلفت إلى أهمية الساعة الذهبية، وهي اللحظات الأولى للإنقاذ، إذ إن الجسد يستجيب بشكل فعال، وهذا يستخدم خاصة مع الأطفال لناحية إضحاكهم عند الإنقاذ وإعطائهم ماء وشعوراً بالأمان، وهذا مهم جداً، مضيفة "من الضروري أيضاً متابعة المؤشرات الحيوية للناجين، هل يأكلون، هل ينامون، وإعطاءهم فرصة ومساحة لفهم ما حدث معهم".
كما تعيد ورد التأكيد على وضع الناجين بمكان آمن بعيد عن مكان الزلزال، لعدم ربط المكان بالذكريات المؤلمة، إذ إن بعض الأشخاص قد يصابون برهاب المكان، رغم أن الأمر يختفي من شخص إلى آخر، إلا أن الرهاب من المكان قد يحدث عند البعض.
وعند الحديث عن العلاج، توضح أن العلاج ليس بهذه السهولة، بل هو معقد وله مراحل وتقنيات ترتبط بحالة المريض، "إذ إن هناك أناساً قد يشخّصون باضطراب ما بعد الصدمة وآخرون قد يشخصون باضطرابات معقدة ومستمرة منذ فترات طويلة من حياتهم، لذا العلاج قد يختلف وفقاً للتشخيص"، إلا أنها تشدد على ضرورة احتواء المتأذين نفسياً من الأصدقاء أو الأقارب أو شبكة المعارف، وإعطائهم فرصة ومساحة للحديث عما حدث معهم وفهم ما حدث، مؤكدة على أهمية استعداد الشخص لتلقي العلاج النفسي، خاصة في حالة اضطراب ما بعد الصدمة.
الصحة النفسية للمسعفين والمنقذين والصحافيين
وفي السياق، تلفت ورد إلى أهمية المعالجة الصحية النفسية للمنقذين أو الصحافيين أو المسعفين، الذين كانوا على تماس مباشر مع هذه الكارثة، لأن الآثار النفسية قد تظهر على المدى البعيد.
وتوضح أن هناك مهناً صادمة، أي على تماس مباشر مع الكوارث والمآسي والضحايا، وهنا التأثيرات النفسية تكون مباشرة على الجهاز العصبي الذي يبقى في حالة تنبيه لفترات طويلة وهذا مرهق جسدياً ونفسياً.
أما التأثير غير المباشر، وهو الصادر عن الدماغ، قد يتيح له الوقت لاسترجاع هذه الصور عبر كوابيس، أو عبر معالجتها، وهذه الأمور ستظهر لاحقا.
وقدرت منظمة الصحة العالمية أن يبلغ عدد المتضررين من الزلزال 23 مليوناً، بينهم نحو خمسة ملايين من الأكثر ضعفاً، إلا أن المشاهدين والمتابعين وصلهم ارتداد الزلزال نفسياً.
وهنا توضح ورد أن الأشخاص المشاهدين والمتابعين والمتلقين للأخبار والصور يصابون بصدمات ثانوية، إذ إنهم يتعرضون لمحتوى مشحون بمشاعر آخرين لجهة الأسى والألم والفقدان والخوف، وهي مشاعر سلبية، ومن الطبيعي أن يتأثر المتلقون، ومنهم من تأثر فعلاً وأصيب بمشاعر الذنب، فبتنا نسمع العديدين يتحدثون عن شعورهم بالذنب لأنهم في أمان ويتمعتون بالدفء بخلاف آخرين.
نصائح للمتضررين نفسياً
وتقدم ورد مجموعة من النصائح للمتضررين نفسياً، أهمها الهدوء وممارسة تمارين التنفس والحرص على ممارسة روتين واحد على الأقل كشرب القهوة أو القراءة أو سماع أغنية لأن ذلك من شأنه أن يضفي إحساسا بالاستقرار النفسي والأمان.
وتحذر المعالجة النفسية من أزمة عدم توافر الاختصاصيين النفسيين مقارنة بحجم المتضررين من الزلزال، ما قد يضع هؤلاء المرضى في وضع حرج نفسياً، مثلما حدث مع أحد الناجين عندما وصف حالاتهم بالقول "أموات نفسياً" بانتظار الدفن.