لبنانيون يختصرون حياةً داخل حقائب في المهجر

15 أكتوبر 2024
اختاروا الفرار من لبنان جراء الحرب (فضل عيتاني/ فرانس برس)
+ الخط -

... حتّى إنّ بعضهم لم يتمكن من توديع بعض. وعدم الوداع هو تتمّة لأحداث ومشاهد سابقة تسير مسرعةً في الدماغ الذي يبدو وكأنّه يرفض استرجاعها أو التوقف عندها. لكن خلال الحرب، لا متّسع من الوقت للفرار والنجاة أو التفكير. تُعبَّأ الحقيبة في دقائق تختصر مجرّد يومٍ أو أيام أو ساعات من حياة الإنسان. تختصر وتُنتقى من بين سنوات طويلة. وحين تُفتح، في الموقع الجغرافي الجديد الذي يصنّفكَ/كِ ناجياً، تشعر بحجم الفراغ. لم تعد تنتمي إلى ماضٍ أو حاضر، عادة ما يرتهن المستقبل بهما.

ساعات قليلة قلبت حياة الآلاف، ونقلتهم من بقعة جغرافية إلى أخرى. والأمكنة الجديدة لا تتّسع لجميع الحقائب الجديدة. حتى تكاد تكون لحظة توضيب الحقائب الأصعب على الإطلاق. ماذا نضع فيها؟ ثياباً صيفية فقط أو أخرى شتوية؟ الكتب؟ الهدايا؟ ماذا عن كريمات الوجه؟ ربما هذه رفاهية مفرطة. أيّ فارّ قد يفكّر في تفاصيل كهذه؟
على إحدى مجموعات "واتساب" التي تضم عشرة أصدقاء، سألت إحداهنّ عن أماكن التوزع الجغرافي الجديدة للجميع. أحدهم بات في ضبية (شمال بيروت). وهي تركت بيتها في بيروت وتوجهت إلى منزل أهلها الواقع خارجها. اثنان من المجموعة باتا خارج لبنان.
وفي مجموعة أخرى تضمّ خمس فتيات، سافرت إحداهن إلى ألمانيا في فرصة عمل كانت قد حصلت عليها قبل التصعيد الإسرائيلي في 23 سبتمبر/ أيلول الماضي. ستُسافر هذه الصديقة إلى الأبد، وكان لا بد من لقاء وداعي بين الصديقات الخمس، لم يحدث. فجراً، توجهت إلى المطار، وكان الهم الأكبر وصولها بأمان إلى البلد الجديد، أو ربما اجتياز الأجواء اللبنانية خشية حدوث غارة إسرائيلية قريبة من المطار. هي نفسها كانت ضمن الذين نزحوا من محافظة النبطية في جنوب لبنان خلال التصعيد الإسرائيلي، وعلقت لساعات طويلة في زحمة السير قبل أن تصل إلى العاصمة بيروت سالمة.

بدت يتيمة، أو مجرد فارّة غير قادرة على الفرح بنجاة أو بالحياة الجديدة التي تنتظرها، في بلد لا هموم "لبنانية" فيه، حيث ستكون قادرة على تشغيل كل الآلات الكهربائية في وقت واحد من دون الخوف من احتمال انقطاع التيار الكهربائي. وهذه متعة في حد ذاتها، إلى درجة أنها قد تشغّل جميع الآلات للفرجة فقط، فالأمر قابل للتحقق ببساطة. 
سافرت من دون أن يتمنى لها أصدقاؤها التوفيق، وقبل أن يعيدوا ترتيب الذكريات التي يتحتّم عليها حملها معها. عضوات المجموعة الخمس توزعن اليوم بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا وأميركا الجنوبية. يومياً، يتراسلن على المجموعة، ويتشاركن بعضاً من يومياتهن، ضياعهن، تلك الكنبة التي كنّ يتمددن عليها، أملٌ بمستقبل فُرّغ من كل عناصره.
يقلن إنهنّ ماضيات قدماً، ويستهلكن مجموعة من الكلمات أو العبارات المتعارف عليها في الأزمات، منها أن الحياة يجب ألا تتوقف، وهي فعلاً تستمرّ وتستجيب لقوانين حرب ظلّت عقولهن المتمسكة بالحياة والنجاة تقول إنها لن تتوسّع. بتن مسيّرات لا مخيّرات. فالاختيار بين النجاة والموت ليس اختياراً أو قراراً حراً، بل لحظات مستقطعة من الحياة بحسب كل التعاريف الدنيوية والفقهية والفلسفية وغير ذلك.
فتيات هذه المجموعة يعشن فراغاً وانتظاراً ووقتاً ضائعاً وأملاً في استعادة مفقودات بات يصعب تحديدها. صباحكن من لبنان، ومصر، وألمانيا، والبرازيل. حيوات تختصر في "تشات" على واتساب وصور يتشاركنها للقول إنهن بخير رغم كل شيء.
وهنّ لسن إلّا مجموعة من بين آلاف المجموعات التي تشتّت أصحابها، داخل البلد نفسه أو خارجه. كأن جلود اللبنانيين سُلخت عن عظامهم من دون أن يحظوا بأخرى جديدة تشبههم، ليدخلوا في عمليات ترميم تكاد تكون لا منتهية.

لاحقاً، قد تعاد صياغة هذه المجموعات بحسب الجغرافيا، وقد تبعد الجغرافيا أصحابها بعضهم عن بعض. الزمان والمكان، ورغم بديهيتهما وسهولتهما، يصعب تحديدهما في رأي اللبنانيين. يعيشون الآن في "المؤقت". وهم على مجموعات "واتساب"، يحاولون كسر ذلك المؤقت والاستمرار فيما كانوا قد بدؤوه طويلاً، وفيما لن يعود كما كان. يدركون ذلك تماماً. وينهون أحاديثهم بالقول: "على الله" سواء أكانوا مؤمنين أم لم يكونوا.
في أحاديثهم المتبادلة على المجموعات، يخجلون من الاستفسار عن المستقبل، وحتى الغد. لم يعد مسموحاً لهم بذلك. إنّها قوانين الحرب. تضعنا في المهجر في بيوت منتقاة بعناية، أو أخرى بسيطة وبدائية، أو لدى الأصدقاء، أو في لبنان نفسه بين المناطق التي لا يزال يؤمل أن تكون آمنة سواء في بيوت أو مدارس... لكنّ الجميع سُلخوا عن حياتهم وانتقلوا إلى "المؤقت" الذي قد يكون طويلاً. وهذا ما ستحفظه الخوارزميات والصور داخل كادرات الشاشات.

المساهمون