يُظهر بحث جديد بعنوان "كيف جعلت السياسة أمة مريضة" أجرته جامعة "كينغز كوليدج" في لندن بالتعاون مع جامعة "كامبريدج" والجامعة الأميركية في بيروت، مدى مساهمة سلسلة طويلة من الأزمات ذات الدوافع السياسية في خلق "دولة فاشلة" وإحداث كارثة صحية عامة في لبنان. ويركّز البحث على كيفية تحقيق تغطية صحية شاملة، وتحديد أولويات الإنفاق والتغيير في قطاع الصحة بلبنان.
يقول الدكتور في جامعة "كامبريدج" آدم كوتس، الذي شارك في البحث لـ"العربي الجديد": "نتابع قضايا صحية واقتصادية واجتماعية في لبنان منذ عشر سنوات، ولم نرَها بهذا السوء سابقاً، رغم أنّ المنطقة كلّها تواجه تحديات صحية خطرة بسبب تفكك الأنظمة الصحية بتأثير النزاعات الطويلة والكوارث الإنسانية، وإهمال الدول لأعوام أنظمة الرعاية الاجتماعية".
يضيف: "تعمل منظمة الصحة العالمية لتعزيز المتطلبات الاجتماعية لتكريس العدالة الصحية في المنطقة، في وقت تعترف بضرورة معالجة العوامل السياسية والاقتصادية فوراً لتأمين صحة السكان، والبحث الحالي سيساعد في تنفيذ هذه المهمة".
ويشير إلى أنه "ينظر دائماً إلى علاقة الصحة الضعيفة بالتنمية والانتعاش المبكر مقارنة بالاستقرار الاقتصادي والتعليم والأمن. فالجهات المانحة في لبنان لا تعطي أولوية للصحة، لكن المشكلة تكمن في أن مواصلة إهمال الأنظمة الصحية ستؤدي إلى مشاكل أكبر في المستقبل".
حجة سورية
ويشبّه كوتس تدهور الوضع الصحي في لبنان بحطام قطار بطيء سرّع انتشار وباء كورونا عندما انهار الاقتصاد عام 2019. ويقول إنّ "سنوات إهمال الدولة لنظام الصحة العامة جعلته هشاً ومشتتاً، لكنّ السياسيين يصرّون على إلقاء اللوم على الوضع في سورية في حجة لا تشكل فعلياً إلا مجرد كبش فداء. وحالياً، يصعب ألا نرى لبنان غير دولة فاشلة عندما لا يستطيع نصف السكان الوصول إلى رعاية صحية، وثلاثة أرباع منهم على خط الفقر، في حين لم يحاسب أحد على وقوع انفجار بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020. إذا لم يكن ذلك فشل دولة فالمصطلح يحتاج إلى إعادة تعريف".
ويتحدث كوتس أيضاً عن أنّ البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي حاولت مرات تقوية وإصلاح نظام الرعاية الصحية العامة في لبنان، لكن محاولاتها واجهت سياسيين اهتموا فقط بتعزيز الرعاية الصحية الخاصة وصناعة الأدوية، باعتبار أنها تجلب مبالغ كبيرة لهم".
وفيما لا يعتبر البحث أنّ "المحنة الحالية للبنان تجعله في وضع ميؤوس منه، بخلاف ما ينقله معلقون في وسائل الإعلام"، يقول البروفيسور في جامعة كينغز كوليدج بلندن، ريتشارد سوليفان، لـ"العربي الجديد": "يتجاهل أكاديميون وصحافيون ومانحون دوليون بالكامل كيف تؤثر الخدمات العامة خصوصاً الصحة في شكل كبير على الحياة اليومية للناس".
ويصف البحث بأنه "ريادي وجديد، والأكثر شمولاً للنظام الصحي منذ بدء التدهور الاقتصادي في لبنان. وهو اتبع نهج الاقتصاد السياسي مع تجنب التركيز فقط على الجوانب الفنية وأدوات الرعاية الطبية مثل نقص الأدوية والعمليات الجراحية، ما يعني أن البحث نظر إلى الصورة الأكبر، وتناول أسباب تضرّر الرعاية الصحية من خلال تحليل سياسات واقتصاديات الصحة ضمن التعقيدات الواسعة للحياة اللبنانية. كما حاول فهم الأسباب الجذرية والسياسية والاقتصادية للأزمة تمهيداً لمعالجة جهات فاعلة داخلية وخارجية لها، من هنا يعتبر مرآة تعكس حالات فشل الأنظمة الصحية المتعددة، وتظهر سبل وفرص جعل الرعاية الصحية أفضل وأكثر إنصافاً وبأسعار معقولة لجميع اللبنانيين".
ويشير سوليفان إلى أنّ "ملايين اللبنانيين وحوالى 1.5 مليون لاجئ سوري يعيشون الآن تحت خط الفقر الذي يحدده البنك الدولي، ونصف السكان بلا تأمين صحي، وثلثهم فقدوا وظائفهم بسبب عقود من سوء الإدارة الاقتصادية والفساد داخل الحكومة والخدمات العامة. أما القطاع الخاص فيسيطر على أكثر من 80 في المائة من الخدمات الصحية".
من جهته، يشرح رئيس البحث في بيروت، الدكتور فؤاد محمد فؤاد، أنه "عندما ننظر كيف أصبح لبنان أمة مريضة نشعر بإحباط خصوصاً حين ندرك أن الحكومة تنفق بين 8 و10 في المائة من إجمالي الناتج المحلي على الرعاية الصحية، وهو ما تفعله دول أوروبية عدة".
ويقترح تقديم التزامات سياسية واضحة لتأمين صحة ورفاهية اللبنانيين واللاجئين، وإنشاء عقد اجتماعي جديد، علماً أن التقرير يقدم سلسلة خيارات لتحقيق الاستقرار، مثل خلق نظام صحي ورفاهية أكثر توازناً عن طريق الحد من الاعتماد على القطاع الخاص. ويشير التقرير أيضاً إلى أنّ "المانحين والأطراف المتعددة يحتاجون إلى التركيز على المستقبل، والاستثمار في قطاعات الرعاية الصحية والرفاهية العامة القائمة على الدولة بدلاً من دعم نظام خاص بالكامل، حيث تذهب العائدات إلى جيوب السياسيين".
ويطلق التقرير جملة توصيات بينها الاعتراف قانوناً بالعاملين الطبيين النازحين من سورية الذين "يمثلون استثماراً حيوياً في رأس المال البشري قد يساعد في تحقيق التغطية الصحية الشاملة، وسدّ الثغرات الخاصة بالقدرات التي تركتها هجرة عاملين صحيين لبنانيين في الأشهر الأخيرة".