تتوالى معاناة أصحاب الأمراض المزمنة والمستعصية في لبنان، وكأنّه لا تكفيهم هواجس الحديث عن رفع الدعم عن أدويتهم الإلزامية، ومخاوف انقطاع الدواء من جراء أزمة الدولار، ليُصدموا بتعميمٍ مفاجئ أصدرته وزارة الصحة العامة، يطلب حضور صاحب العلاقة شخصيّاً لاستلام الأدوية، ويرفض أيّ توكيل بل ويلغي التوكيلات السابقة.
التعميم الذي لم يسمعوا به عبر وسائل الإعلام أو غيرها، والذي تمّ الاكتفاء بتوزيعه على نسخٍ داخل مركز توزيع أدوية الأمراض المستعصية في منطقة الكرنتينا – المدوّر (بيروت)، أثار حالةً من الإرباك بدت واضحة خلال جولة لِـ "العربي الجديد". فما من أحدٍ على عِلمٍ بالتعميم، باستثناء قلّة قليلة، حتّى أنّ أحد الموظّفين أجاب شابّة لم تتمكن من الحصول على دواء والدها، بالقول: "الحق معك، لكن لا ذنب لنا. اسألي الوزارة وافهمي منها، فنحن لم نفهم بعد".
إذاً، الضياع هو سيّد الموقف كذلك بالنسبة للمواطنين الذين تكبّدوا عناء القدوم منذ ساعات الصباح الأولى إلى المركز التابع لوزارة الصحة، رغم الطقس الماطر وزحمة السير، لا سيّما أنّ بينهم من قطع مسافات بعيدة وتحمّل مصاعب التنقل وكلفته، ليُصدم بأنّه غير مخوّل بالحصول على الدواء لكونه "ليس صاحب العلاقة"، أو أنّ عليه التوجّه إلى وزارة الصحة للحصول على إذنٍ بذلك، وهو ما لم يذكره التعميم.
حال الاستياء والتعب هذه يُعبّر عنها المرضى "أصحاب العلاقة"، الذين أُجبروا على القدوم بأنفسهم بحجّة "مكافحة التهريب والمتاجرة بدوائهم". عند مدخل المركز، نصح رجلٌ مسنّ امرأة بالعودة إلى الباحة الخارجية من أجل تصوير بطاقة هويتها، ثمّ الدخول مجدداً وطلب دواء والدتها، قائلاً: "أخبريهم بأنّها غير قادرة على المجيء". أمّا في الداخل، فتقول امرأة مسنّة كانت تمسك ابنتها بيدها كي تصل إلى نافذة استلام الأدوية، لـ "العربي الجديد": "أمس، جاء ابني وانتظر ثلاث ساعات، قبل أن يبلغوه بأنّه لا يمكنه استلام الدواء، وعليّ الحضور شخصيّاً. وها أنا هنا اليوم، رغم أنّني أعاني من روماتيزم (آلام في العضلات والمفاصل والأنسجة اللّيفيّة) وترقّقٍ في العظام، ولا أقوى على التحرّك كثيراً".
السيدة التي لم تعلم بإمكانية استحصال أولادها على إذنٍ لاستلام الدواء نظراً لوضعها الصحي المتدهور، كانت قد قدِمتْ من منطقة الناعمة (جنوب بيروت)، حيث حاولت ابنتها إقناع الموظف بأن تأتي في المرة المقبلة عوضاً عن والدتها، أو أن يأتي شقيقها، فكان جوابه: "سيرون وضعها، ويبدو أنّها ليست في حالة جيدة، ما يسمح لكِ أو لأخيكِ باستلام الدواء".
أمّا شقيقة أحد المرضى الذي يعاني من مرض صفار الكبد (يسمّى أيضاً اليرقان)، والتي اعتادت طوال 10 سنواتٍ على استلام دوائه، فجلست تنتظر مدير المركز علّها تحصل على موافقته وتستلم علاج أخيها. "فهو غير قادر على المجيء، ودواؤه وراثي ضروري"، كما توضح لـ "العربي الجديد".
تقول: "أسكن في الضاحية الجنوبية لبيروت، وقد قدِمتُ الاثنين الماضي وفوجئتُ بالتعميم، وعدتُ خالية الوفاض بعدما تحمّلتُ كلفة النقل والمواصلات. لكنّني اليوم عدتُ وكلّي أمل بأن يكونوا قد تراجعوا عن قرارهم، لأعلم منذ دقائق بأنّه عليّ التوجّه إلى وزارة الصحة العامة للحصول على إذنٍ يُعطى للحالات الاستثنائية. وهذا ما سأفعله في حال لم يوافق مدير المركز، لكن مَن يتحمّل مشقة هذه الآلية؟ وهل يمكنني عندها اللحاق بالمركز مجدّداً قبل أن يغلق أبوابه؟ وما ذنب أخي ليكون جزءاً من مسار مكافحة تهريب الدواء وبيعه؟ ألم يكن يكفي طلب بطاقة هويتي للتأكّد؟".
على مقعدٍ مجاور، تنتظر زوجة أحد المرضى مدير المركز أيضاً. تقول لـ "العربي الجديد": "زوجي يعاني مرضاً وراثيّاً في الكبد، وكنتُ أحصل على دوائه شهريّاً، لكنّهم اليوم رفضوا إعطاءه لي". تضيف: "زوجي يمنعه حيناً مرضه من القدوم وحيناً آخر عمله، كونه موظّفاً مياوماً. فإذا غاب يوماً لا يتقاضى أجره وهو رب عائلة. من أين نعيش؟ ما يتقاضاه بالليرة اللبنانية بات يساوي نحو 150 دولارا (بحسب سعر الصرف في السوق السوداء)".
وتتحدّث عن معاناةٍ إضافية يقاسيها أهالي المرضى، متسائلةً: "كيف لي أن أتحمّل تكاليف التنقّل من المركز إلى الوزارة ذهاباً وإياباً، وهي مسافة بعيدة تستدعي دفع أجرة تاكسي، وبالكاد أملك في جيبي 50 ألف ليرة لبنانية (نحو 6.25 دولارات وفق سعر الصرف في السوق السوداء)، ناهيك عن كلفة قدومي من الضاحية الجنوبية للعاصمة، وكلفة العودة. إنه لواقعٌ مزرٍ وما من أحدٍ يشعر معنا".
على كرسي آخر، ينتظر أحد مرضى سرطان الرئة والدته حتى تستلم أدويته. وتوضح الوالدة لـ "العربي الجديد": "أتيتُ منذ أيام لأستلم دواءه كالعادة، لكنّهم طلبوا منّي إحضار ابني. واليوم، بعدما رأوه، أبلغوني بإمكانية القدوم بمفردي في المرة المقبلة، بعد أخذ الإذن من الوزارة".
وتبرّر شابّة أخرى من بلدة الهرمل البقاعية حصولها على علاج شقيقتها، بالقول: "أختي مصابة بفيروس كورونا الجديد، لذلك تمّ إعطائي الدواء، علماً أنّني وإيّاها خضعنا منذ نحو سنة وشهرين لعمليّة زراعة كبد بعد مشاكل صحية دامت نحو 17 عاماً".
جردةٌ لضبط الغش
من جهتها، تؤكد مصادر وزارة الصحة لـ "العربي الجديد" أنّ "التعميم جاء كمحاولة لضبط عمليّات التهريب والغش في هذه الأدوية باهظة الثمن، والتي تقدّمها الوزارة بشكل مجّاني، لا سيّما بعد ضبط كميات كبيرة منها مهرّبة في المطار، وبعد كشف عمليات احتيال يتمّ عبرها الحصول على الدواء لبيعه، وذلك تحت اسم مرضى إمّا سافروا أو فارقوا الحياة".
ويقول: "هدفنا ترشيد دعم الأدوية المزمنة والمستعصية منعاً للمساس بها، وتفادياً لأن يلحق بها أيّ خفض للدعم، ما يساهم في استمراريّة تقديمها للمستحقين. لذلك، طلبنا حضور المريض، ولمرة واحدة فقط، وليس بالضرورة إلى المبنى الرئيسي للوزارة، فهناك مكاتب في مختلف المحافظات. لكنّ التعميم الذي صدر بداية ديسمبر/ كانون الأول الحالي، يُعدّ نوعاً من جردة أو إحصاء، ومن ثمّ يحصل أحد أقرباء المريض على الإذن، في حال تعذّر قدوم صاحب العلاقة، حيث سننظر في كل حالة، خصوصاً أنّ هناك من لا يمكنه ركوب السيارة".