"هل أترك الأشجار واقفة أمام منزلي أم أترك أولادي يموتون من البرد؟". سؤالٌ يطرحه مواطنون لبنانيون في ظل تصاعد حدّة الأزمة الاقتصادية والمعيشية في البلاد. إذ إن التيار الكهربائي ينقطع لساعاتٍ طويلة، وفواتير اشتراك المولّدات تفوق قدرة الكثيرين. أمّا مادة المازوت، فإمّا غير متوفرة أو يتوجب شراؤها بالدولار. وكذلك الأمر بالنسبة لقارورة الغاز. ولا سبيل للتدفئة ودرء البرد القارس إلّا من خلال اللجوء للأحراج والغابات، وسط غيابٍ تامّ لأيّ حلّ جذري يحفظ كرامة المواطنين ويضمن استدامة التنوّع البيولوجي.
واقعٌ مريرٌ يتخبّط فيه الكثير من اللبنانيّين منذ بدء فصل الشتاء، إذ يدفعهم الفقر والعوز والحاجة الملحّة للتدفئة وحتّى لطهي الطعام إلى "استباحة" الثروة الحرجية والقضاء على أشجارٍ نادرة ومعمّرة، من دون أن يدرك العديد منهم حجم الخسائر والأضرار المباشرة وغير المباشرة على نظامٍ إيكولوجيّ لطالما تميّز به لبنان.
نقطع لنبقى على قيد الحياة
في محافظة البقاع، يلجأ رجل خمسيني فضّل عدم الكشف عن اسمه إلى جمع الأغصان المتبقية من تقليم الأشجار في الأراضي المجاورة لسكنه. ويقول لـ "العربي الجديد": "لم يبقَ أمامي أيّ خيار للتدفئة سوى الحطب، فلا طاقة لنا على شراء المازوت ولا الغاز. وبما أنّ أصحاب البساتين باشروا موسم التقليم، فقد انتهزتُ الفرصة للحصول على ما تيسّر من حطبٍ، يؤمّن الدفء لعائلتي ويخفّف من قساوة البرد والأمراض، ناهيك عمّا جمعته بعد تهاوي أشجار وأغصان من جراء العواصف الثلجية الأخيرة والرياح القوية".
وفي جنوب البلاد، يواصل أحد المواطنين قطع وجمع كلّ ما يصادفه من حطبٍ وقشٍ وأغصانٍ يعود بها إلى منزله وأسرته، علّه يوقد ناراً تقيهم حدّة الصقيع. ويقول شادي (اسم مستعار): "لم يعد راتبي في القطاع العام يكفي لشراء الأساسيّات من موادٍ غذائية وأدوية لأطفالي، وبقيت الحقول والغابات وحدها الملاذ لضمان سبل التدفئة. فالاعتماد على المازوت والغاز والكهرباء بات من الماضي".
وفي حين يقضي الكثير من المواطنين أيامهم في الغابات والأحراج بحثاً عن أغصان مكتفين بالكميّات التي يحتاجونها هم وعائلاتهم فحسب، يمارس آخرون وفي أكثر من منطقةٍ لبنانيّة، أبشع أنواع الإجرام بحقّ البيئة والطبيعة، إذ يمعنون في قطع الحطب بالأطنان، بهدف بيعه، بينهم من يعاني الأمرّين فعلاً ويبحث عن مصدر رزقٍ لأسرته، وبينهم من يجني الأرباح من دون حسيب أو رقيب.
جريمة بحقّ اللبنانيّين والبيئة
"ما يحصل اليوم جريمة لا تُغتفر بحقّ اللبنانيّين قبل أن تكون بحقّ الطبيعة والبيئة"، يقول الناشط البيئي والحقوقي عبد الرحمن المحمد. ويوضح لـ "العربي الجديد": "نقتل أنفسنا وبلدنا بيدنا وندمّر البيئة الحاضنة، وذلك بعدما قضت الحرائق على ثروةٍ حرجيّةٍ لا تُعوّض، بينها شجر لزّاب عمره مئات السنين، وهو شجر نادر تقريباً، ولا يمكن تعويضه بتشجيرٍ جديد ولا حتّى بأيّ نوعٍ من الأشجار". ويسأل: "أين لبنان الأخضر؟" مشيراً إلى أنّ "الثروة الحرجية مهدّدة، حيث تناقصت المساحات الخضراء من نحو 17 في المائة إلى ما يقارب 7 في المائة فقط، وهو معدل خطير جداً يؤدّي إلى نوعٍ من التصحّر والتغيّر المناخي".
ويتحدث المحمد عن أنّ "البعض يفتعل الحرائق للحصول على حطب سنديان أو ملّول أو شوح، أو حتّى على شجرٍ معمّر كاللّزاب، بطريقةٍ شرعيّة. كما أنّ الحالة المعيشية الصعبة وارتفاع أسعار الوقود للتدفئة، فاقمت من ظاهرة قطع وحرق الأشجار، في ظلّ غياب الدولة والحاجة الملحّة لتأمين سبل التدفئة". يضيف: "كون المواطن يُحرق أكثر من مرة من جراء الأعباء الملقاة على كاهله، فيضطرّ للّجوء إلى الحطب والتحطيب بطريقةٍ شرعيّة وغير شرعيّة، حيث يقضي على الأخضر واليابس، وهذا أمر خطير جداً". ويأمل "الفرج قبل أن نفقد مساحاتنا الخضراء، وسط انعدام الوعي العام بأهميّة الثروة الحرجية في لبنان وقيمتها الحيويّة".
تنظيم القطع والتقليم
من جهته، يرى الناشط في جمعية "درب عكار" (جمعية محلية شمال البلاد) خالد طالب، أنّ "قطع الأشجار في لبنان لا يحتاج إلى منعٍ وتجريم، بل إلى اعتماد إدارة متكاملة للغابات، بمعنى السماح بالقطع وفق خطة محدّدة وضوابط صارمة جداً، والسماح باستثمار المساحات الخضراء بشكلٍ لا يلحق أيّ ضررٍ وفق إطار قانونيّ يحفظ استدامة الحياة والطبيعة. الأساس ألّا نعزل الإنسان عن محيطه، بل أن نفعّل دوره الإيجابي في مراقبة النباتات والأشجار، بما يضمن حماية الغابات من الحرائق المفتعلة وغير المفتعلة، ويخفّف من وطأة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في منطقتنا التي تُعدّ بالأصل مجتمعات زراعية تعتمد على التفحيم وقطع الحطب".
ويوضح لـ "العربي الجديد" أنّ "هذه الآلية كانت تُعتمد قبل إقرار القوانين البيئية. وكان أهالي القرى يتوافقون كلّ عام على قطع وتقليم جزءٍ من الأراضي، ما يعزّز التنوّع البيولوجي ويسمح بنمو نباتات وأصناف عدة، نخسرها عندما تتشابك الأشجار بعضها ببعض. كما أنّ هذه الطريقة المنظّمة تخفّف من القطع العشوائي ومخاطر الحرائق وأضرارها الجسيمة"، مؤكداً أنّ "حريقاً واحداً كفيلٌ بالقضاء على 90 هكتاراً من أصل 100 هكتار من الغابات الكثيفة بشكلٍ كاملٍ، وهي مساحات لا يمكن تجديدها قبل 10 إلى 20 سنة، وربما أكثر".
ويكشف طالب أنّ "الحرائق التهمت العام الماضي نحو 2600 هكتار في محافظة عكار، ولحقت بالغابات والثروة الحرجيّة أضرار مباشرة، بينها ما تضرّر بنسبة مائة في المائة، وبينها ما اقتصرت أضراره على 40 في المائة، وهي مساحات كان بإمكانها أن تؤمّن التدفئة لكلّ لبنان، لو تمّت إدارتها بشكلٍ سليم".
الصقيع لا يرحم
يتحدث المواطن علي سلّوم، وهو من بلدة تعلبايا في البقاع الأوسط، عن "مشهدٍ فظيعٍ لكميّات الحطب والأشجار المقطوعة في محافظة البقاع ككلّ". ويقول لـ "العربي الجديد": "كلّ أسبوع يتناقص عدد الأشجار، وعلى وجه الخصوص أشجار الحور والدردار. وفي بعض الأحيان يتمّ قطع أشجار الصنوبر، وكذلك كميات كبيرة جداً من أشجار السنديان، كونها موجودة على المرتفعات وبعيدة عن الأنظار. كلّ ذلك بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة التي لم تستثنِ أحداً، تماماً كما موجة الصقيع". يضيف: "هناك غياب تامّ لأيّ رقابة فاعلة، فالدولة لا تقوم بواجبها، والمواطن ليس واعياً لتداعيات هذه الظاهرة الخطيرة".