مانيسا التركية... ولاية العنب الشتوي والاحتفالات والأساطير

02 يناير 2024
عنب مانيسا الشتوي الأشهر في العالم (محمد أمين منغو أرسلان/الأناضول)
+ الخط -

لأن السعادة تنتج بالدرجة الأولى من قرارات تتخذها الشعوب، بغض النظر عن الظروف وتبريراتها، تسلك ولاية مانيسا التركية طريقاً معبداً بالأماني من أجل نيل هذه السعادة، فهي تبتدع الأعياد كي تفرح حتى إذا خلت الروزنامة التاريخية من مناسبة، واضطرت إلى نبش دفاتر الأساطير للعثور على مناسبات تمهيداً لإحيائها.
ويخصص في مانيسا عيد سنوي في شهر آذار/ مارس للاحتفال بـ"يوم المسير"، والذي يشهد توزيع حلويات مصنوعة من توابل يعتقد بأنها شفت عائشة حفصة والدة السلطان سليمان القانوني على المارة والعابرين انطلاقاً من مسجد السلطان الذي شُيّد في القرن السادس عشر، وتحضر هذا المهرجان شخصيات اجتماعية وسياسية بارزة، ومن بين المناسبات السنوية أيضاً عيد يوم شفاء والدة السلطان سليمان. 
وإذا لم تسعف الحيل والتواريخ مانيسا فإنها تحيي احتفالات استناداً إلى مناسبات اجتماعية أو من أجل تخليد شخصيات بارزة، ومن ذلك ما تفعله سنوياً في 31 أيار/ مايو، لإحياء ذكرى "طرزان مانيسا" أحمد الدين، وهو رجل كرّس حياته للزراعة والاعتناء بالطبيعة، فكرمته الولاية بتماثيل عدة موزعة في الشوارع، وتنظيم مهرجان شعبي يُخلّد ذكراه.
يقول الباحث التركي أحمد كانام لـ"العربي الجديد": "مانيسا من بين الولايات المظلومة إعلامياً وسياحياً، لكنها تنفرد بميزات وطبيعة لا توجد في غيرها، ففيها نهر أغادير وبقايا آثار 7 حضارات تعاقبت على حكمها منذ عام 500 قبل الميلاد. وتشتهر اليوم بـ"العنب الشتوي" الذي يعرف باسم العنب المانيسي في جميع ولايات تركيا، فضلاً عن كثرة الأعياد، وتعدد الأساطير".
يضيف: "تقدم الولاية خلال فصل الشتاء عنباً طازجاً ليس لتركيا فقط بل أيضاً لدول كثيرة من بينها روسيا ودول أوروبية ودول الخليج العربي، وذلك من خلال تغطية هذا العنب حين يكون على الدوالي، وتأخير قطفه من أغسطس/ آب إلى ديسمبر/ كانون الأول، وترعى وزارة الزراعة التركية هذا الأسلوب وتدعمه حتى بات قضاء (صاري كول) في مانيسا عاصمة العنب الشتوي في العالم".

بعض من آثار ولاية مانيسا (كامل ألتيبارماك/ الأناضول)
من آثار ولاية مانيسا (كامل ألتيبار/الأناضول)

ويتحدث رئيس غرفة زراعة صاري كول، علي إحسان أولغن، عن أن الغرفة والمزارعين يعملون جدّياً للحفاظ على أسلوب زراعة العنب الشتوي الذي يضمن بقاءه طازجاً حتى فصل الشتاء، وهو مصدر مهم لتحقيق مكاسب اقتصادية لمزارعي المنطقة.
إلى ذلك يؤكد كانام أن مانيسا من بين المناطق التركية الضاربة في عمق التاريخ، إذ تتضمن آثاراً يعود تاريخها إلى 500 عام قبل الميلاد تظهر تعاقب الحضارات الحيثية والفريجية والليدية والمقدونية والرومانية والبيزنطية والعثمانية عليها، علماً أن آثاراً مدينتي "ساردس" و"ثياتيرا" القديمتين فيها تعود إلى 3000 عام قبل الميلاد.
وحملت الولاية اسم ماغنيسيا قبل الفتح الإسلامي، ثم تغيّر إلى مانيسا عام 1313 بعدما خضعت لسلطة سلطان ساروهان بيه، وأصبحت عاصمة لسلالته الحاكمة. وقد بلغت ذروة الازدهار خلال حكم الدولة العثمانية الذين بنوا مساجد وخزانات مياه وجسوراً ومدارس ومرافق وقصوراً. 

مدينة ساردس الأثرية (محمد أمين منغوارسلان/ الأناضول)
مدينة ساردس الأثرية (محمد أمين منغو أرسلان/الأناضول)

في القرن السادس عشر، أصبحت مانيسا من بين أهم مدن السلطنة العثمانية من الناحية الاقتصادية والإدارية والاجتماعية لأنها كانت مركزاً لتدريب أبناء السلاطين وأولياء العهود على الحكم والإدارة. وتضم الولاية متحفاً كان في الأصل مدرسة لتخريج الأئمة قبل أن يتحوّل بعد تأسيس الجمهورية التركية إلى متحف يحتوي على مقتنيات أثرية من عصور عدة، علماً أنها أيضاً مهد الحركة الصوفية (المولوية) والتي تأسست في القرن الخامس عشر على يد جلال الدين الرومي.
يقول كانام: "نظراً إلى قدَم وجمال الطبيعة، تعتبر مانيسا قبلة للمستكشفين من داخل تركيا وخارجها، أكانوا سياحاً أو باحثين أو عشاقاً للطبيعة، وتحتوي على نقاط جذب كثيرة من مياه وسهول ووديان وجبال، وفي كل منطقة من مناطقها السبع عشرة هناك اكتشاف وحكاية وآثار، وتزخر مانيسا ومحيطها بمعالم وآثار، إذ تضم مواقع سياحية كثيرة، منها مواقع قديمة مثل مدينتي ساردس وثياتيرا، وحديثة مثل مسجد السلطانة عائشة حفصة أم السلطان سليمان القانوني، وحديقة مانيسا الشهيرة على جبل سيبلوس".
ويعود تاريخ مدينة ساردس الأثرية التي تعرف أيضاً باسم سرت إلى نحو 4000 عام، وتتضمن واحدة من الكنائس السبع المهمة في غربي الأناضول، والتي لعبت دوراً بارزاً في انتشار المسيحية، وتظهر بعض البحوث أن مدينة ساردس تعود إلى العصر الحديدي.
وأدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" مدينة ساردس في قائمة الحدائق الجيولوجية العالمية بفضل غناها بالمواقع التاريخية والطبيعية، مثل بركان "كولا"، والحمم البركانية الخامدة، ومضيق "أدالا"، وتلال "بين تبلار"، وكان المؤرخ "ستاربون" أطلق اسم "البلد المحترق" على المدينة التي تعتبر من بين أبرز الوجهات السياحية في مانيسا بفضل تاريخها العريق وجمالها الطبيعي، ويزورها نحو 250 ألف شخص سنوياً.

أما مدينة ثياتيرا القديمة التي تتضمن كنيسة تاريخية أيضاً، فتقع في منطقة أكهيسار، وكانت واحدة من النقاط العسكرية والتجارية المهمة كونها تقع عند تقاطع طرق دائرية، ويتفق الباحثون على أنها شُيّدت في العصر البرونزي.
ومن المعالم الإسلامية مسجد ومجمع "مرادية" الذي بناه السلطان مراد الثالث بين عامي 1583 و1592، ويحتوي على مدرسة ومحال تجارية، وهو ذو مخطط مقلوب مصنوع من حجارة مقطوعة تشكل الجزء الأكثر جاذبية، ويصنفه خبراء على أنه أكثر الهياكل أناقة في العمارة العثمانية الكلاسيكية.
ومن الهضاب الشهيرة في مانيسا هضبة السلطان كيرز التي ترتفع 850 متراً فوق سطح البحر، وتتضمن حديقة جبل سبيل الوطنية، وتتميز الهضبة بأشجار الكرز والصنوبر ومصادر مياه الشرب الباردة، وأيضاً هضبة أوفاجيك التي توجد فيها مدينة قديمة وصخرة "نيوبي" والجسر الأحمر وقبور ومعابد تاريخية قديمة.
وتبقى محتويات متحف مانيسا الذي افتتح عام 1937 دليلاً قاطعاً على تعاقب الحضارات من العصر البرونزي إلى الفترة البيزنطية ثم السلجوقية والعثمانية.

المساهمون