رغم مرور 185 عاماً على ذكرى مقتل أمير الشعراء الروس ألكسندر بوشكين، إثر إصابته خلال مبارزة بالمسدس مع الفرنسي جورج دانتس في 8 فبراير/ شباط 1837، تتعدد الروايات حول أسباب النهاية المأساوية لأعظم شعراء روسيا ومؤسس لغتها الحديثة حين كان في الـ37 من العمر.
وفيما تتناول الرواية الرئيسة لأسباب المبارزة اهتمام دانتس بزوجة بوشكين ناتاليا غونتشاروفا، وتعمده مغازلتها، تتحدث رواية أخرى عن قصة غرامية جمعت بين دانتس وشقيقة ناتاليا، يكاتيرينا، التي تزوجها، لكن أمير الشعراء المعروف بشخصيته الانفعالية لم يسامح دانتس، وأصرّ على خوض المبارزة. أما الرواية الثالثة فتفيد بأن "دانتس كان مثلي الجنس وحظي برعاية الدبلوماسي الهولندي ووالده بالتبني لويس غيكيرن، ما عزز فرضية أن الأخير استخدم دانتس لتصفية حساباته مع بوشكين بسبب العداوة الشخصية بينهما".
وأثناء المبارزة أطلق بوشكين رصاصة على دانتس أسقطته أرضاً من دون أن تقتله، ما أفضى إلى رواية حول دخول الرصاصة في زر لباسه، في حين نقلت أخرى فكرة أن دانتس ارتدى قميصاً واقياً تحت زيّه أنقذه من الموت. وبعد المبارزة، سارع دانتس إلى الهروب من روسيا إلى فرنسا، حيث حقق مسيرة سياسية ناجحة. أما بوشكين، فلفظ أنفاسه الأخيرة متأثراً بجروح الإصابة بعد مرور يومين من المبارزة في 10 فبراير/ شباط 1837. ورغم مرور نحو قرنين على المبارزة، لا يزال الغموض يسود ظروف المبارزة وملابساتها، في وقت يتساءل فيه مؤرخون وناقدون أدبيون عما إذا كان الإنتاج الأدبي الغزير لبوشكين سيستمر لو عاش حتى الشيخوخة.
خيوط كثيرة
في السياق، يقول مدير مكتب "راديوس" للرحلات في موسكو والمؤرخ والمرشد السياحي أنطون لاتينين، لـ"العربي الجديد"، إن "بوشكين سقط ضحية لتآمر النخب عليه، ما أودى بحياة أعظم شعراء روسيا، الذي يعد مؤسس لغتها الحديثة".
يضيف: "يصعب تصور أن بوشكين لم يستطع إصابة دانتس، ما يعزز رواية ارتداء الفرنسي الزي الواقي، وإسراعه في مغادرة روسيا. والحقيقة أن بوشكين تدرب على الرماية منذ أن كان في المنفى، وخطط لحمل عصا من حديد كي لا تهتز يده أثناء مبارزة كانت مرتقبة بينه وبين فيودور تولستوي، الذي كان قد سبق أن قتل 11 شخصاً. لكن هذه المبارزة لم تحصل في نهاية المطاف كونهما تصالحا، ونشبت علاقة صداقة بينهما".
وحول ارتباط عامل المثلية الجنسية بقضية بوشكين، يشرح لاتينين أن هناك "رواية تتحدث عن أن دانتس كان من مثليي الجنس الذين غضبوا من تلميحات بوشكين الساخرة تجاههم، فوجهوا رسائل مجهولة المصدر تلمح إلى أنه يتعمد غض النظر عن تصرفات زوجته، ما نشر شائعات عن اهتمام دانتس بناتاليا".
وفيما عرف بوشكين بإنتاجه الأدبي الغزير، يعتبر نقاد أدبيون روس أن تاريخ الأدب في بلدهم كان سيختلف لو أن بوشكين لم يقتل في المبارزة وظل على قيد الحياة. ويعلق لاتينين قائلاً: "لو عاش بوشكين حتى الشيخوخة، لتحوّل ربما إلى يوهان غوته روسياً يحترمه العالم أجمع، لكن هناك أيضاً شيئاً من الرقي في موته شاباً. كما أنه كان معرضاً لمخاطر الحوادث المرتبطة بغيرته على زوجته، بسبب حضوره كل حفلات الطبقة النخبوية، علماً أن الإمبراطور نيقولاي الأول كان لا يتردد في دعوة ناتاليا للرقص باعتبارها حسناء بطرسبورغ".
مؤسس اللغة الروسية الحديثة
وحول مكانة بوشكين في الأدب الروسي، يوضح لاتينين أن الشاعر أسس الأدب الروسي واللغة الروسية الحديثة، لأن اللغة التي كتب بها أسلافه، أمثال ميخائيل لومونوسوف وغافريل ديرجافين، لم تكن حيّة، ويعود الفضل إليه في تحويل هذه اللغة الحيّة إلى الشعر. والأدب الروسي ما قبل بوشكين لم يكن يعرفه إلا الاختصاصيون. كما برع بوشكين في كل أنواع الكتابة الأدبية، وبينها المسرح والشعر والنثر والحكاية. ومن أشهر أعماله الرواية الشعرية "يفغيني أونيغين"، التي تصنف باعتبارها موسوعة الحياة الروسية في بداية القرن التاسع عشر. ويلفت لاتينين إلى أن "بوشكين يحظى حتى اليوم باهتمام كبير من الروس والأجانب. وتنظم لزوار موسكو جولات إلى مواقع مرتبطة به في موسكو، منها متحف بوشكين في شارع أربات التاريخي الشهير". ولعل دور بوشكين في تطوير اللغة والأدب الروسيين دفع بالأمم المتحدة عام 2010 إلى إعلان تاريخ ميلاده، 6 يونيو/ حزيران، يوماً عالمياً للاحتفال باللغة الروسية.
في سطور
ولد بوشكين في موسكو في 6 يونيو/ حزيران 1799، ومن أسلافه القائد العسكري الروسي أبرام غانيبال الملقب بـ"عراب بطرس الأكبر"، ما يفسّر بعض الملامح الشرقية لوجهه. واطلع منذ صغره على روائع الأدبين الروسي والفرنسي، ويعود إلى مربيته أرينا روديونوفنا الفضل في تلقينه حب الحكايات الشعبية الروسية. وقد ألف أعماله الشعرية الأولى حينما كان تلميذاً في مدرسة نخبوية في ضواحي بطرسبورغ. وفي عام 1831، تزوج بوشكين من ناتاليا وأنجب منها أربعة أطفال، هم ماريا وناتاليا وألكسندر وغريغوري، لكنه واجه في السنوات الأخيرة من حياته ظروفاً بالغة الصعوبة مع تزايد التوترات في علاقته مع القيصر، وتبني أوساط أرستقراطية مؤثرة مواقف عدائية تجاهه، إضافة إلى تدهور أوضاعه المادية وتراكم ديونه. وشكل مقتل بوشكين مأساة وطنية، ما دفع القيصر نيقولاي الأول إلى إصدار أمر بنقل جثمانه سراً من بطرسبرغ خوفاً من خروج تظاهرات. ودفن في دير سفياتوغورسكي الواقع قرب بلدة ميخايلوفسكويه بمقاطعة بسكوف، التي تحتضن اليوم متحفه وتحوّلت إلى وجهة لعشاق الأدب الروسي نظراً لارتباطها باسم أعظم الشعراء الروس، الذي أقام فيها خلال سنوات نفيه، قبل أن يعفو عنه القيصر نيقولاي نفسه.
وقد ناقش بوشكين مع القيصر نيقولاي مطولاً موضوع إجراء إصلاحات أساسية، بينها تحرير العبيد، إذ رأى بوشكين أنه من دون دعم الناس فالطريقة الوحيدة لتحقيق الإصلاح هي من الأعلى أي من خلال القيصر نفسه، وهو ما يفسر اهتمامه المستمر بالإصلاحات السياسية ومحاولته نقل تجربة القيصر بطرس الأكبر إلى القيصر نيقولاي حتى من خلال عدة أعمال شعرية طرح في أحدها قضية الإنسان البسيط الذي يدمره القيصر.