لم تكن التونسية نادية الغريبي (40 سنة) تتوقع أن تكون ضحية لحملة تنمر واسعة بعد تداول صورة لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي عندما كانت في المدرجات مع الجمهور أثناء مشاهدة مباراة منتخب تونس أمام أستراليا في مونديال قطر.
تقول الغريبي في تصريح لـ"العربي الجديد": "حضرت المباراة من أجل تحقيق رغبة ابني في مشاهدة المنتخب الوطني، خاصة أن زوجي توفي قبل سنوات، فأصبحت الأب والأم معاً. لم أرغب في حرمانه من هذا الحلم، فلو كان والده على قيد الحياة لرافقه إلى هناك، لكنّني للأسف مررت بأسوأ تجربة في حياتي، وتحولت فرحتنا إلى حدث مؤلم". تضيف أنّه "بمجرد وصولي مع ابني إلى الفندق في قطر، فوجئت بتحايل صاحب وكالة السفر في تونس، إذ لم يكن هناك حجز باسمنا، كما أن الفندق كان قد بلغ كامل طاقة الاستيعاب، ما جعلنا نقضي الليلة مستيقظين بلا غرفة"، مبينة أنه "في يوم المباراة، ومن بين آلاف الجماهير، التقط لي أحدهم صورة، وفوجئت عندما شاهدتها بتغير ملامحي بالكامل، لتنطلق إثر ذلك حملة من التنمر على شكلي، حتى إنّ البعض ذهب إلى حد القول إنّني ذكر متحول جنسياً".
وتواصل الغريبي التي كانت تملك محلاً لبيع الملابس الجاهزة لكنها أغلقته بسبب سوء الأوضاع نتيجة تداعيات كورونا: "التجربة التي مررت بها بعد التنمر على شكلي كانت قاسية، لأن التعليقات انهالت عليّ، وتحدث كثيرون عني بالسوء من دون أن أرتكب أي ذنب سوى أنني شجعت المنتخب الوطني في المونديال. لولا قوة شخصيتي، ومساندة عائلتي وأصدقائي وكل من يعرفونني عن قرب، لكان تأثير الحادثة أشد وطأة". وأشارت إلى أن "الأمر أزعجني، لأن أغلب ما قيل لا يخلو من مس بكرامتي، وحكم على شكلي"، مؤكدة أنّه "حتى بافتراض أنّني لست سيدة جميلة، فهل يستحق هذا أن يتنمر عليّ البعض؟ رغم الحملة الواسعة التي شنت ضدي، فإن هناك أيضاً من رفضوا التنمر عليّ، وساندني كثيرون معنوياً، وعبر لي كثيرون من عدة بلدان عربية عن مساندتهم لي".
لا تعتبر الواقعة التي تعرضت لها نادية الغريبي الأولى في تونس، إذ تعرض طفل يبلغ من العمر 8 سنوات إلى التنمر من قبل أطفال آخرين، بتاريخ 5 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، في منطقة النفيضة بمحافظة سوسة، وأحد هؤلاء يدرس معه في نفس المدرسة، فقام الأطفال باعتراض طريقه، والاستهزاء به، ووصل الأمر إلى محاولة شنقه عبر تعليقه على شجرة.
وأفاد مندوب حماية الطفولة في سوسة، طاهر العارم، بأن "السلطات تعهدت بالرعاية النفسية للطفل الضحية الذي تعرض إلى محاولة الشنق من قبل أصدقائه بعد تعريته"، مؤكداً في تصريح إذاعي أنّه "من بين 4 أطفال اعترضوا سبيله، طفلان لم تتجاوز أعمارهما 13 سنة. تلقينا إشعاراً حول الحادثة، وتقدم والده بشكاية رسمية، والطفل الآن محل تعهد من قبل الطب النفسي".
وشهدت محافظة القيروان (وسط) في 23 أكتوبر الماضي انتحار فتاة تبلغ من العمر 17 سنة شنقاً في منزلها بعد تعرضها للتنمر، وتدرس الفتاة بالسنة الثانية اختصاص علوم تجريبية في أحد المعاهد الثانوية الخاصة، وعانت من وضع نفسي بسبب سخرية زملائها منها.
وحذرت الجمعية التونسية لوقاية الطفولة والشباب، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، من احتداد أشكال العنف والتنمر، وتكرار خطاب الكراهية المهددة سلامة الأطفال الجسدية والنفسية والعقلية، مع تزايد وجودهم في الفضاء السيبراني، واستخدامهم وسائل التواصل، مؤكدة أنّ انتحار التلميذة أخيراً سببه التنمر عليها.
ويقول المختص في علم الاجتماع، سامي نصر، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "التنمر من أكثر المواضيع الحساسة والمحرجة في ذات الوقت، بمعنى أنه يمس الجميع، سواء الجناة أو الضحايا، وكل شخص معرض لأن يكون جانياً أو ضحية في واقعة تنمر"، مشيراً إلى أنّ "هناك مفارقة سوسيولوجية نرى من خلالها عدة أحداث جرت في البلاد نتيجة التنمر، ففي حين أن المجتمع يرفض التنمر، فإنه من جهة أخرى لا تخلو أغلب الظواهر الاجتماعية المتجذرة في حياتنا من تنمر، وحتى في التاريخ، تدل عدة حوادث سابقة على تجذر ثقافة التنمر مجتمعياً".
يقول إنّ "التنمر ظهر منذ فترة الستينيات، بعد عمليات نزوح كبيرة من سكان الريف إلى المدن، وهناك دراسة سوسيولوجية على النكات الشعبية، بينت أن العديد من نكات أهل المدن كانت تطلق على النازحين من الأرياف، وكردّ فعل، أو آلية وقاية، كان النازحون بدورهم يطلقون نكاتاً على أهالي المدن، ما يعني أنه كان هناك تنمر، وتنمّر مضاد".
ويلاحظ بن نصر أنّه "خلال الأعوام الأخيرة كان هناك نسق متواتر للتنمر بين أهالي نفس الجهة، وبين سكان المناطق الراقية والشعبية، وحتى على المستوى السياسي، فمنذ الثورة، تحوّلت الشيطنة والشيطنة المضادة إلى إحدى آليات الصراع في تونس، والتي نستبطن في داخلها عمليات تنمر على صورة المرأة، أو على رئيس الحزب الذي تتم مهاجمته، وأصبح الأمر يشبه التطبيع مع التنمر".
وتابع أنّه "عندما يكون التنمر متجذراً سياسياً واجتماعياً فإن محاربته تكون صعبة، فالتنمر يبرز عند عدم تقبل الآخر المختلف، وأحياناً اعتباره عدواً، وعندما لا نربي الأطفال على تقبل الآخر المختلف، فإننا نكرس التنمر منذ الطفولة، ففي المدرسة نطلب من التلميذ مثلاً عدم الجلوس مع التلميذ الفلاني، أو ذاك القادم من مكان مختلف، وبهذا يوجَّه الطفل بطريقة أو بأخرى إلى رفض الآخر المختلف، ويدعم هذا التوجه التنمر عليه لاحقاً".
وبيّن أنّ "التنمر عادة يكون على شخص لا يشبهنا، وهذا شكل من أشكال العنف الرمزي، وهو يعتبر من بين أخطر أشكال العنف، لأنّه يمنح المجتمع شرعية لممارسة العنف، لكن عندما يتجذر الأمر في المجتمع، فإنه يتحول إلى آلية من آليات الاتصال والتواصل. في حين أن التطبيع مع العنف يجعلنا نتنمر على كلّ شيء، ومع الشخص المختلف وغير المختلف، وحتى التنمر لمجرد مخالفة أحدهم لنا في الرأي، ومن الأسف، فإن تداعيات التنمر قد تبقى في ذهن الضحية، وخاصة الطفل، لمدة سنوات، وقد لا تمحى، وقد تؤثر على شخصيته، وربما يصل الأمر إلى حد اللجوء إلى العنف المضاد، أو الانتحار".
ويلفت المختص في علم الاجتماع إلى أن "حل المشكلات الاجتماعية لا يكون بالقوانين فقط، وقبل أن نصل إلى مرحلة الإحاطة بالضحايا، وهي خطوة ضرورية، لا بد من خلق ثقافة عدم الوقوع في التنمر، كما أنه لا بد من توعية العائلة للقيام بدورها في التوعية، وعلى المجتمع المدني والإعلام ومؤسسات الدولة أن تعمل على خلق ثقافة جديدة رافضة للتنمر، ومحذرة من مخاطره".