في عام 2018، كشفت تقارير حقوقية مختلفة إنشاء الصين شبكات وصفتها بأنها "مراكز خدمة لشرطة هذه الدولة في عدد من بلدان العالم". ونهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعاد رصد مركزين تابعين لسفارتي بكين في أمستردام وروتردام تسليط الضوء على هذا الموضوع بالتزامن مع إطلاق تحقيق في شأن تغلغل بكين في عدد من دول أوروبا، من أجل مراقبة مواطنين، في وقت تصرّ بكين على أن "هذه المراكز مكاتب خدمات إدارية تهتم بشؤون الصينيين المغتربين". ووصف تقرير أصدرته مؤسسة "سايف غارد ديفندرز" التي تتابع انتهاكات حقوق الإنسان وتتخذ من مدريد مقراً، مكاتب السفارة الصينية بأنها "مخافر للشرطة الصينية خارج الحدود تستخدم لتنفيذ ضغوط على الجاليات".
وأوضح التقرير أن مكاتب خدمة الشرطة الصينية تنتشر في حوالى 30 بلداً، وتحتضن بعضها قنصليات بكين، وتعمل أخرى خارجها، كما يحصل في السويد، حيث زعمت مؤسسة "سايف غارد ديفندرز" الحقوقية أن "منطقة غرب العاصمة استوكهولم تحتضن أحد مكاتب الشرطة الصينية الذي يقع في جوار فندق ومركز تسوق تنتشر فيه شركات جديدة، وقد سُجِّل كشركة في السجلات السويدية في صيف عام 2021 الذي يعتقد أنه تاريخ توسيع الصين وجود شرطتها إلى الدول الإسكندنافية".
وقد اختفى المكتب بمجرد كشف مؤسسة "سايف غارد ديفندرز" وجوده، وتوضيحها أن "إنشاء شركة تعتبر واجهة لمكتب الشرطة الصينية نفذه شخص هاجر من الصين في أواخر السبعينيات، ويحمل جنسية البلد منذ عام 1985". وأبدى مدير "سايف غارد ديفندرز" بيتر داهلين، اعتقاده أن "مكتب استوكهولم يرتبط منذ عام 2018 بشرطة مدينتي فوتشو وكينغتيان جنوب شرقي الصين"، علماً أن داهلين نفسه كان قد اعتقل في الصين عام 2016 بتهمة إدارة منظمة حقوقية حملت اسم "تشاينا أكشن"، وقد أجبر على الاعتراف للتلفزيون الرسمي في بكين بأنه كان يتجسس، ثم أفرج عنه ورُحِّل.
ويبدو أن تبرير السلطات الصينية وجود هذه المكاتب الأمنية في العالم، بأنها مجرد مكاتب قنصلية تهدف إلى إقناع الناس بالعودة إلى الصين لمحاكمتهم على ارتكاب جرائم، خالف استنتاجات منظمة "سايف غارد ديفندرز" خلال متابعتها الأنشطة الصينية مع جالياتها المغتربة حول العالم.
وتعتقد المديرة في مؤسسة "سايف غارد ديفندرز"، لورا هارث، أن "مهمة المراكز الصينية تشمل مراقبة الآراء الموجودة داخل مجموعات المنفيين الصينيين". وأشارت إلى وجود عنوانين للشرطة الصينية مرتبطين بصورة مباشرة بشركة "كينكتيان" التي تأسست في استوكهولم عام 2018.
وأشار تقرير المؤسسة الحقوقية إلى وجود أنشطة مرتبطة بالسفارات الصينية وتلك المحطات والشركات التي تشكل غطاءً لها، وبعضها يتعلق بأعمال دعائية دولية عن الصين إلى جانب مراقبة أنشطة الجاليات الصينية.
وما يُقلق داهلين تحديداً، أن سلطات بكين تعتمد في أنشطة شرطتها في الدول الغربية على صينيين ومحليين يعملون نيابة عن هذه الشرطة، علماً أن تقرير "سايف غارد ديفندرز" لاحظ توسع النشاط بين الجاليات الصينية المغتربة، أو اللاجئين الهاربين من الملاحقة إلى 110 "مكاتب شرطة" حول العالم منذ عام 2018.
الرد الصيني
وردت السفارة الصينية في استوكهولم على التقارير، بالقول في رسالة إلكترونية وجهتها إلى صحيفة "سفنسكا داغبلاديت" إن "المكاتب المعنية خدماتية ولا تشارك في أنشطة الشرطة (الصينية)، وتهتم بتقديم مساعدات تطوعية لمواطنين صينيين يعيشون في الخارج، مثل تجديد رخص القيادة الخاصة بهم".
وتشدد سلطات بكين عبر بيانات سفاراتها في أوروبا، على أن جهود هذه المكاتب "ساهمت في إقناع مئات آلاف المشتبه في ارتكابهم جنايات تشمل جرائم نصب واحتيال إلكتروني، بالعودة إلى الصين والمثول أمام المحاكم".
لكن التقارير الحقوقية ترى أن الأمر لا يتعلق بمساعدة المغتربين الصينيين في شأن تنفيذ مسائل إدارية، بل بإعادة مطلوبين في الخارج. وهي تشير إلى أن هذه المكاتب توجد في بريطانيا وهولندا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية وتشيلي واليابان ونيجيريا، ودول أخرى.
ووفقاً لتقارير تتابع الأنشطة الصينية في أوروبا، شكلت العاصمة الأيرلندية دبلن المقر الرئيسي لمكاتب الشرطة الصينية المزعومة. ولفت داهلين إلى أن "الأمر يتعلق بتنفيذ ضغوط لجلب أفراد من الجاليات الصينية من الخارج عبر التهديد بسجن أقاربهم وحرمان أطفال هؤلاء الأقارب أيضاً التعليم، وإجراءات أخرى".
وعلّق أستاذ القانون الدولي في جامعة غوتنبرغ السويدية، يواكيم أومان، بأن "الأنشطة الصينية في الخارج تخالف القوانين، وإنشاء آليات قانونية موازية في دولة أخرى من النوع الذي تصفه التقارير بأنه ينتهك القانون الدولي على صعيد منع تدخل بعض البلدان في الشؤون الداخلية لبعضها الآخر".
يذكر أن أنشطة بكين فوق التراب الأوروبي تخضع منذ سنوات لرقابة أجهزة الاستخبارات في عدد من دول الشمال الأوروبي تحديداً، وذلك إثر كشف إرسال بكين أكاديميين بصفة باحثين إلى جامعات دنماركية وسويدية ونرويجية، قبل أن يتبين تنفيذهم أعمال تجسس صناعي وغيرها. وذكر المسؤول السابق في الاستخبارات السويدية، فريدريك هولتغرين فريبرغ أن "أجهزة الأمن الغربية تجد صعوبة بالغة في قول أي شيء عندما يتعلق الأمر بعمل استخباراتي وتشغيلي يرتبط بقوة أجنبية".
وعادة ما يوصف اختراق بعض الدول جالياتها عبر عملاء مرتبطين بسفاراتها وأجهزتها الأمنية، بأنها "أعمال قمعية" خصوصاً ضد مواطنين فروا بأعداد كبيرة كلاجئين إلى الغرب، وهو ما كشفته تقارير أمنية وحقوقية سابقة في ألمانيا تناولت قادمين من سورية. ومع اشتداد التوتر أخيراً بين روسيا والغرب، باتت أجهزة الاستخبارات الغربية أكثر تتبعاً ومراقبة للأنشطة الروسية والصينية. وأدت تحركات صنّفت بأنها "مشبوهة" إلى إبعاد أشخاص، وحظر الدخول الحر من روسيا، واعتقال آخرين بتهمة التجسس، كما حصل في النرويج أخيراً.
وباتت التقارير التي ترصد أنشطة الصين في مجالات عدة تثير المزيد من التوجس الأوروبي، وخصوصاً حيث تنتشر جاليات صينية تضم أشخاصاً فروا كلاجئين سياسيين، خصوصاً أن بكين متهمة بحوادث اختفاء مواطنين صينيين يحملون جنسيات أوروبية، بعد زيارتهم هونغ كونغ.