مدينة الإلهة آرتميس... أفسس التركية معجزة في الأناضول

01 ديسمبر 2022
تجذب أفسس أعداداً كبيرة من السياح (محمود سردار ألاكوس/ الأناضول)
+ الخط -

تُؤثر تركيا على الدوام تسليط الضوء على اكتشافات تدل على قدم وعراقة أرض الأناضول، وكأن ثمة خطة غير معلنة لتحويل ولايات تركيا إلى متحف مفتوح، بعد زيادة تسجيل مواقعها على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونسكو" للتراث العالمي، لتبلغ 20 موقعاً العام الماضي. وعام 2018، قال رئيس اللجنة الوطنية لليونسكو في تركيا أوجال أوغوز، إن بلاده تتصدر المرتبة الأولى عالمياً في القائمة المؤقتة لمواقع التراث العالمي التي تصدرها المنظمة.
وأفسس من أقدم المدن التي تم تأسيسها في العصر الإغريقي ولا تزال باقية على حالها إلى يومنا هذا. وتم تأسيس مدينة أفسس تركيا في القرن العاشر قبل الميلاد.
في هذا الإطار، تحرص تركيا على الاحتفاء بعد كل اكتشاف، ومحاولات التأريخ لقدم المنطقة وكنوز من سكنها بالماضي الغابر. وتداولت وسائل الإعلام مؤخراً اكتشافات آثار جديدة في مدينة أفسس وهي من أعظم المدن الإغريقية القديمة في الأناضول وتقع في محافظو إزمير (غرب)، وقد أدرجت على لائحة التراث العالمي الثقافي قبل سبع سنوات.

وتقول رئيسة أعمال التنقيب بأفسس سابينا لادستاتر إن العثور على آثار جديدة في مدينة أفسس يعتبر "حدثاً عظيماً" خلال أعمال التنقيب بالمنطقة، لأن الحي المكتشف والدكاكين تعود إلى العصر البيزنطي المبكّر، مضيفة خلال تصريحات نقلتها وكالة "الأناضول" أن الآثار الجديدة بحالة جيدة، على الرغم من أنها مكتشفة في المنطقة التي دمرت فجأة بين 614-615 ميلادي. وتتحدث عن "أوان فخارية وبذور لوز وزيتون وبقوليات"، وهي أهم الاكتشافات بالمدينة الأثرية منذ 50 عاماً.
بدورها، تتحدث الباحثة المتخصصة بالتاريخ القديم سيهان كارمان عما قد يراه البعض "مبالغات" تتعلق بالآثار التي تعود إلى 6500 سنة قبل الميلاد، وبقاء تلك الآثار بعد هذا الوقت الطويل من دون تفتت أو اندثار بمناطق شهدت حرائق وخرابا وحروبا. وتقول إن تاريخ أفسس تحديداً يعود إلى نحو 7 آلاف سنة قبل الميلاد، وهذا موثّق بالدلائل المرفقة لإدراجها على قائمة التراث العالمي عام 2015. وتُعتبر أفسس التي تأسست في العصر الحجري الحديث، إحدى أعظم المدن الإغريقية القديمة في الأناضول، والتي شهدت نشاطاً واستمرارية خلال الفترات الهلنستية والرومانية والبيزنطية وإمارات الأناضول والعهد العثماني. ووجود آثار حتى اليوم، سواء مكتبة سيلسوس التي اكتمل بناؤها عام 135 م. أو بوابة هادريان (تعد من أجمل الأعمال الفنية القديمة في أنطاليا) ومعبد دوميتيان وبوابة هاغنيسيا ونافورة تراجان والمسرح الكبير، كلها تعطي أفسس خصوصية بدليل تهافت السياح والمؤرخين عليها. ولا يقل عدد زوارها عن مليونين سنوياً.  
من جهتها، تقول الباحثة التركية سيهان كارمان لـ "العربي الجديد" إن "معبد الإلهة الإغريقية آرتميس يكفي وحده ليكون دليلاً على ما نسمعه عن قدم وأهمية أفسس، كونه قائما منذ عام 550 قبل الميلاد، وأعيد بناؤه بعد حريق عام 356 تماماً كما كان، قبل أن يهدم مجدداً. وبقي القليل منه ويعتبر الآن من عجائب الدنيا السبع.
ويقول مدير متحف أفسس جنكيز طوبال إن "مدينة أفسس شهدت إقبالاً ملحوظاً من قبل السياح المحليين والأجانب بعد مرحلة تفشي فيروس كورونا الجديد"، مشيراً إلى أنها شهدت هذا العام إقبالاً يفوق زوار عامي 2018 و2019، موضحاً في الوقت نفسه أن جنسيات الزوار تختلف بحسب الفصول. فالأوروبيون والأميركيون يقبلون على زيارة المنطقة بشكل أكبر خلال الصيف، فيما يفضل الزوار الآسيويون زيارة المنطقة خلال فصل الربيع.
ويرى خبراء أن لمعبد آرتميس دورا في شهرة أفسس وزيادة نسبة زوارها، إذ يعد تحفة معمارية ونموذجاً فريداً لدور العبادة، على الرغم من إحراقه وتدميره مرتين. وكانت الإلهة آرتميس الموجودة في أفسس ليست فقط إلهة الخصوبة، وإنما كانت بمثاية الراعي للمدينة، ولذلك كانت تحتاج إلى معبد ليتم تكريمها به.

أفسس من أقدم المدن التي تم تأسيسها في العصر الإغريقي (محمد أمين منغوارسلان/ الأناضول)
أفسس من أقدم المدن التي تم تأسيسها في العصر الإغريقي (محمد أمين منغوارسلان/ الأناضول)

من هنا، يحتفظ المعبد بخصوصية الجذب والإعجاز المعماري كونه مبنيا، بالإضافة إلى معابد أخرى في منطقة المستنقعات بأفسس، ويعتقد أن هناك مجموعة من المعابد أو الأضرحة التي كانت موجودة قبل أكثر من 800 سنة ما قبل الميلاد. فعندما غزا الملك قارون الشهير هذه المنطقة في 550 ما قبل الميلاد، قال إن معبد آرتميس هو أكبر وأكثر المعابد روعة.
وكان معبد آرتميس يتكون من هيكل مستطيل ضخم مصنوع من الرخام الأبيض، وطوله حوالي 350 قدماً ومساحته أكثر من 180 قدماً مربعة. ووصل عدد الأعمدة الأيونية فيه إلى 127، وكانت في صفين وبلغ طولها 60 قدماً.
وتمت تغطية كامل معبد آرتميس بالمنحوتات الجميلة، بما في ذلك الأعمدة، وكان شكلها مميزاً. وداخل المعبد تمثال الإلهة آرتميس.
وظلّ المعبد، بحسب المراجع التركية، لمدة 200 عام، محجاً يقصده الحجاج لتبجيل آرتميس وتقديم التبرعات السخية للإلهة.
لكنه وبحسب الروايات، كان هناك رجل مجنون أضرم النار في المبنى، بغرض أن يتذكره الناس كحارق المعبد. وتقول المراجع: "كانت الإلهة آرتميس مشغولة جداً عن وقف هذا الرجل المجنون من إحراق المعبد.. كانت مشغولة بولادة الإسكندر الأكبر في ذلك اليوم".
وعام 262 م، جاءت قبيلة القوط الموجودة من الشمال، وغزت أفسس ودمرت المعبد. لكن هذه المرة، لم يُعد بناؤه. وفي وقت لاحق، للأسف، نهبت أنقاض المعبد، وأُخذ الرخام لبناء غيره من المباني في المنطقة. وعام 1864، موّل المتحف البريطاني أعمالا للتنقيب في المنطقة على أمل العثور على أنقاضه. وبعد خمس سنوات من البحث، وجدت بقايا المعبد تحت 25 قدماً من طين المستنقعات. وفي وقت لاحق، نقب علماء الآثار في الموقع نفسه من دون أن يجدوا الكثير، وشحن القليل من القطع الأثرية التي تم العثور عليها إلى المتحف البريطاني في العاصمة لندن.
لكن بعثات التنقيب التركية لم تتوقف، ليتم الإعلان كل فترة عن مكتشفات تعيد لأفسس تاريخها القديم وللمعبد والإلهة آرتميس أهميتهما. وقبل الاكتشافات الأخيرة، عثر علماء الآثار على قبور وأوانٍ أثرية يتجاوز عمرها 3 آلاف و400 عام، ويعود تاريخها إلى أواخر العصر البرونزي لليونان القديم (يونان الموكيانية). 
ومن أبرز معالم أفسس القديمة والباقية حتى اليوم، معبد آرتميس الذي يبقى الأهم ضمن آثار أفسس، ومعبد هادريان (يحمل اسم الإمبراطور الروماني هادريان)، ويعد من عجائب أفسس ومكمن سرها وجذبها.
وفي المدينة اليوم منازل مبنية على الطراز الروماني القديم. ويقول خبراء إن فيها من إعجاز البناء ونماذج التدفئة ما يذهل حتى اليوم. ويستدلون من الأشعار والكتابات الموجودة على بعض جدرانها حتى اليوم على تطور البناء والهندسة المعمارية في تلك الأزمنة.

أما مسرح أفسس، فهو من المسارح المفتوحة التي كانت تعرض عليها مبارزات المصارعة حتى الموت. وهناك مصنع الفخار وهو أحد أقدم مصانع الفخار التي تم العثور عليها تحت الأرض ولا يزال جزء كبير منها باقيا يحكي الوسائل البدائية التي كانت تستخدم في هذه الصناعة. أما مكتبة سيلسوس، التي أعادت تركيا ترميمها لتغدو مزاراً ثقافياً تاريخياً يحتوى على 1200 مخطوطة أثرية، فقد بنيت لجهة الشرق حتى تكون مضاءة نهاراً بضوء الشمس بما يكفي لإضاءة غرف القراءة.

المساهمون