مرضى السرطان يكافحون الموت بلا علاج في غزة

09 يناير 2024
يحتاج مئات من مرضى السرطان إلى العلاج في الخارج (ديديم منتي/الأناضول)
+ الخط -

يوجد المئات من المرضى والجرحى في آلاف الخيام التي أصبحت تشكل عشوائيات كبيرة لإيواء عشرات آلاف النازحين الغزيين بالقرب من الحدود المصرية. وفي ساعات المساء، يسمع الأنين الناتج عن الآلام، لكن تظل آلام مرضى السرطان هي الأصعب.
في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، توقف المستشفى التركي عن العمل بعد نفاد الوقود، ثم اقتحم جنود الاحتلال المستشفى، وكان فيه نحو 70 مريضاً بالسرطان، وقدر مدير المستشفى حينها، أن 25 من المرضى فقدوا حياتهم بسبب توقف العلاج بشكلٍ مفاجئ، بينما حرم أكثر من ألفي مريض مسجلين في المستشفى من العلاج الدوري وجلسات العلاج الكيميائي.
نزح أحمد أبو طبيخ (53 سنة) إلى مدينة رفح التي كانت وجهته الخامسة بعد نزوحين داخل مدينة غزة، ثم نزح منها إلى المحافظة الوسطى، ثم إلى مدينة خانيونس التي نزح داخلها مرة ثانية، وأخيرًا وصل إلى مدينة رفح. يعاني أبو طبيخ من سرطان الحلق، وينتشر المرض في أنحاء جسده بشكل سريع وفق تقييم الطبيب، وتفاقم ذلك خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العدوان الإسرائيلي.
ويعد أبو طبيخ أحد من حرموا من العلاج في المستشفى التركي المخصص لعلاج مرضى السرطان في القطاع، والتي كانت الأمل الأخير للمرضى بعدما أعلن الاحتلال إغلاق كافة المعابر، وخصوصاً معبر "إيرز" الذي كان يخرج منه المرضى، ومعبر كرم أبو سالم المخصص للأدوية والبضائع.

توقف المستشفى الوحيد لعلاج السرطان في قطاع غزة عن العمل

يقول أبو طبيخ لـ"العربي الجديد": أنا في انتظار الموت، فلا بديل عنه بالنسبة لي بعد انتشار الكتل السرطانية في جسدي. كان من المفترض أن أحصل على 10 جرعات علاج في الداخل الفلسطيني خلال الفترة الأخيرة، لكن العدوان وما تبعه من حصار إسرائيلي عبر إغلاق المعابر منعني من العلاج، وأصبحت أتلقى فقط العلاجات التي تملكها وزارة الصحة، وهي غير مناسبة لحالتي، لكن هذا كل المتاح".
يضيف: "الكل يمدحني لأني واقف على قدميّ، وأنا أتفهم تلك النظرات لأن مريض السرطان لا يموت بالمرض فقط، بل يموت بسبب سوء الحالة النفسية. مجتمعنا ينقصه الكثير من التفاصيل لإتمام رحلة العلاج، وهي رحلة متعبة جسدياً ونفسياً. أنا مصاب منذ سبعة أشهر، وأصبح جسدي هزيلاً، وقد كانت معنوياتي مرتفعة، لكنها تتقلص يوماً بعد يوم".
وتشير أرقام المكتب الإعلامي الحكومي، وبيانات وزارة الصحة في قطاع غزة إلى أن عدد مرضى الأورام ومن بينها السرطان في القطاع يصل إلى 10 آلاف مصاب، من بينهم حالات جديدة سجلت خلال فترة العدوان الحالي.

لا سبيل لعلاج مرضى السرطان في قطاع غزة (فرانس برس)
لا سبيل لعلاج مرضى السرطان في قطاع غزة (فرانس برس)

كان محمد أبو زايد (48 سنة)، النازح من مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، يتلقى العلاج من سرطان الرئتين في المستشفى التركي، وكان ضمن الفوج الأخير من المرضى الذين تم إجلاؤهم، لكن قبل الإجلاء، ساءت حالته الصحية نتيجة انقطاع التيار الكهربائي عن المستشفى، وتعرضه للقصف، ثم تفاقمت أوضاعه مع بدء رحلة النزوح إلى الجنوب، وبات يعاني من آلام شديدة، وضيق في التنفس.
يقول أبو زايد لـ"العربي الجديد": "أمراض الأورام تشهد انتشاراً كبيراً في قطاع غزة، والكثير من المرضى أصبحوا في مرحلة انتظار الموت. أقيم داخل إحدى الخيام المخصصة للنازحين في مدرسة بوسط مدينة رفح، وأشعر بالاختناق طوال الوقت، وأحياناً يتم نقلي من الخيمة إلى غرفة خصصتها وكالة أونروا لمرضى الحالات الطارئة في مركز الإيواء. قمت بتسجيل اسمي ضمن الحالات المرضية التي تحتاج إلى العلاج ضمن حالات الطوارئ، وكلما نظرت إلى آلاف الجرحى الذين يستحقون الإسراع بعلاجهم في الخارج، وفي ظل محدودية العلاج عبر مصر، والانتظار لأيام طويلة قبل الحصول على موافقة من الطرف المصري، أشعر بأن الموت يقترب، ولا أستطيع التوقف عن التفكير في ذلك".

سجلت وفاة نحو 30 مريضاً بالسرطان في قطاع غزة منذ بدء العدوان

حصل أبو زايد على جلسات أخيراً على جهاز التنفس الصناعي مع تكرار شعوره بالاختناق في داخل المدرسة، وهو لا يحصل حالياً سوى على نوع واحد من العلاج من بين 6 أنواع يحتاج إليها، والحل الوحيد لإنقاذه هو السفر العاجل للحصول على العلاج في الخارج، لكنه فاقد الأمل، ويتمنى أن تنتهي الحرب، ليقضي أيامه الأخيرة بين أبنائه الخمسة وحفيده الذي يبلغ عمره سنة واحدة.
توفيت عطاف العرعير (57 سنة) نتيجة مضاعفات مرض سرطان الدم في 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وذلك بعد توقف حصولها على العلاج لمدة شهرين، وعدم خضوعها لأي من جلسات العلاج الكيميائي المقررة لها، والتي كانت تجري خارج قطاع غزة وفق خطتها العلاجية، وكانت ضمن الحالات التي أعلنت وزارة الصحة أنها تحتاج بشكل عاجل إلى ضمها إلى آلية سفر المصابين للعلاج في الخارج رغم اكتظاظ أعداد الجرحى في قوائم تلك الآلية، والذين توفي الكثير منهم أثناء فترة الانتظار.

مئات الأطفال من بين مرضى السرطان في غزة (الأناضول)
مئات الأطفال من بين مرضى السرطان في غزة (الأناضول)

تقول ابنتها وفاء العرعير، والتي كانت ترافق والدتها في رحلة النزوح من حي الشجاعية إلى مدرسة في مدينة رفح، إن والدتها كان من المقرر أن تسافر إلى خارج القطاع لتلقي العلاج في 16 أكتوبر/تشرين الأول، لكن تم إلغاء السفر بسبب العدوان، وجددت مطالبتها بالسفر بعد تلقيها جلسة علاج طارئة في المستشفى التركي، قبل أن تنزح برفقة 20 فرداً من أسرتها، وتبقى لفترة من دون علاج تكافح مضاعفات المرض.
تضيف العرعير: "زرنا عدداً من المراكز الصحية، ومراكز وكالة أونروا للبحث عن العلاج، وكانت الردود تؤكد عدم توفر الأدوية، وكانت والدتي تحتاج إلى تشخيص جديد من طبيب متخصص بسبب تدهور حالتها، لكن ذلك لم يكن متاحاً. أصيبت أمي بمرض السرطان قبل 8 أشهر من بدء العدوان الإسرائيلي، وقبل وفاتها كنا نستطيع توفير كميات محدودة من نوعين من أصل خمسة أنواع علاج لها، وكانت مسكنات للآلام، وليست أدوية قادرة على تحسين حالتها. توفيت والدتي وهي تنتظر العلاج، وأشعر بحسرة كبيرة لأنني لم أستطع توفيره لها، ففي كل مرة أسأل عن الأدوية كنت أتعرض للإحباط، ثم أكذب عليها قائلة إنهم أخبروني عن مركز صحي آخر يتوفر فيه العلاج. منذ بداية العدوان، لم تحصل على العلاج سوى مرة واحدة، وتوفيت وهي تشعر بآلام شديدة".
وحذر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان من مخاطر تزايد تسجيل وفيات بين آلاف من مرضى السرطان وغيره من الأمراض المزمنة والنساء الحوامل والأطفال حديثي الولادة في قطاع غزة، في نتيجة غير مباشرة للعدوان الإسرائيلي الذي يستهدف المستشفيات، ويمنع دخول الإمدادات الإنسانية والأدوية والمستلزمات الطبية.
ووثق فريق المرصد الأورومتوسطي وفاة ما لا يقل عن 30 مريضاً بالسرطان في القطاع منذ إغلاق مستشفى الصداقة التركي-الفلسطيني، وهو المستشفى الوحيد المتخصص في علاج مرضى السرطان، وعدم توفر الرعاية اللازمة لهم في بقية المستشفيات، وسط مناشدات مستمرة لتسريع آلية العلاج بالخارج التي تسير بشكلٍ بطيء للغاية.

ويشير الطبيب المتخصص في الأورام، مجدي العيلة، إلى أن "واقع مصابي مرض السرطان هو الأخطر من بين كل أنواع الأمراض التي تفاقمت حالات المصابين بها أثناء العدوان في ظل عدم وجود بدائل لأنواع العلاجات والعقاقير اللازمة لهم، واستمرار تقييد حرية التنقل، إذ يعتبر السرطان من الأمراض التي لا يمكن وقف البرنامج العلاجي لها، وإلا تعرضت صحة المريض للضرر المباشر، وصولاً إلى تهديد حياته". يقوم الطبيب العيلة بالإشراف على عدد من المرضى في عيادة رفح الحكومية منذ بداية العدوان، وغالبيتهم من النازحين من مختلف مناطق قطاع غزة، لكن العيادة تواجه نقصاً حاداً في كل أصناف العقاقير، وغالبية المرضى تم تقليص كميات العلاج التي يحصلون عليها إلى النصف، وبعض العلاجات لا تتوفر لهم بالمرة، والغالبية تحصل فقط على مسكنات عادية لمواجهة الآلام.
ويوضح الطبيب الفلسطيني لـ"العربي الجديد": "الأزمة الأكبر حالياً هي عدم القدرة على علاج مرضى السرطان، فأكثر من نصف المصابين كانت لديهم مواعيد علاج في مستشفيات الضفة الغربية والداخل الفلسطيني، لكنهم حرموا من العلاج، ولا توجد آلية منتظمة لوصول الأدوية من خارج القطاع غزة. ينتشر مرض السرطان في الفترة الأخيرة بشكل واسع، والمرضى يواجهون ضغوطاً نفسية في ظل قلة الأدوية، إلى جانب سوء التغذية ومياه الشرب الملوثة. كل الظروف المحيطة هي ظروف مسببة للموت، وتتطلع وزارة الصحة لإخراج عدد أكبر من الجرحى وأصحاب الأمراض الخطيرة، مثل مرضى السرطان، للعلاج في الخارج".

المساهمون