تصمّم مريم بريبري برفقة بعض الفتيات ملابس تعبّر عن التاريخ الأمازيغي في تونس. كان والدها يعمل في الخياطة والتطريز ووالدتها في صناعة "البرنوس"، وهو لباس تقليدي تونسي، فنشأت وسط عائلة تمارس حرفة صنع الملابس التقليدية ما سهّل إطلاقها مشروعها الخاص بهذه الملابس عام 2015.
تقول مريم لـ"العربي الجديد": "أخذت في البداية آلات الخياطة التي امتلكها والدي واستخدمتها في العمل قبل أن أشتري معدات من مالي الخاص، من دون أن أحصل على قرض أو تمويل. وبدأت باستخدام أقمشة قليلة وأدخلت مهارات حرفية عدة في التصاميم، بينها التطريز والخياطة اليدوية لأجزاء معينة توفر الفرادة المطلوبة في التصاميم التي تعكس أفكاري. وتعاونت مع حرفيين للحفاظ على نمط الصناعة التقليدية، ما كرّس طريقة الاقتصاد التضامني والاجتماعي الذي يساعد عدة أشخاص على العمل في المنتجات".
بدلاً من المحاماة والصحافة
في الأصل تخصصت مريم في القانون، ثم عملت في مواقع صحافية بعدما تخلت عن العمل في اختصاصها لأسباب عدة، في مقدمها منعها من التقدم لامتحان القضاة مع مجموعة كبيرة من الطلاب الذين نُشرت أسماؤهم ضمن قائمة رسمية بسبب مشاركتهم في تحركات اجتماعية ونشاطات مجتمعية للدفاع عن حقوق الإنسان.
وخلال عملها في المواقع الصحافية أسست مشروعها الخاص بتصميم الملابس الأمازيغية التقليدية، ثم باتت لا تستطيع التوفيق كثيراً بين مشروعها الخاص وبين عملها في الصحافة وتنشئة أطفال ضمن مهمات تطوعية، ورغبتها أيضاً في التقدم لامتحان المحامين أو القضاة الذي يتطلب التفرّغ سنة كاملة على الأقل من أجل الدراسة، مع الاضطرار إلى الانتقال إلى العاصمة للتعليم، ما يتطلب البحث عن مسكن ومصاريف وسائل نقل وأكل وغيرها.
تقول: "وفرّ مشروع بريبري الذي أطلقته عام 2015 مداخيل مهمة لي، ثم كبر مع الوقت، وأصبح يُعيل عائلتي وأيضاً عائلات أخرى في ظل عمل مجموعة نساء معي".
تضيف: "أحب تغطية الأحداث ومتابعة الأخبار، وأرى أن الصحافة قريبة من المحاماة، لكن العمل في هذا المجال الذي يثير حماستي الكبيرة لا يتوفر في المناطق، بل يتركز في العاصمة التي تشهد أحداثاً وتحركات مستمرة".
ومنذ سنوات ما بعد الثورة شاركت مريم في تحركات اجتماعية وسياسية عدة للدفاع عن حقوق الإنسان، ما سمح لها بتكوين شبكة علاقات كبيرة في مناطق عدة، وليس في العاصمة فقط. وساعدها ذلك في إطلاق مشروعها لاحقاً مستفيدة من دعم أصدقاء وأقارب كثيرين لها، ولقيت منتجاتها رواجاً جيداً بسبب تقنياتها الفريدة وجمالها الذي يعكس ميزات العادات والتقاليد التي يتوق إليها كثيرون.
ننجح كلنا مع بعضنا البعض
وتقول: "في بداية المشروع كنت ألتقط صوراً بالهاتف للملابس التي أصممها وأنفذها، وأعرض تفاصيل كل قطعة وأشكال التطريز التي تتضمنها، وأنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم أبدى أشخاص كثيرون استعدادهم لتصوير ما أنتجه، وتطوّع أصدقاء لتنفيذ جلسات تصوير لهذه الملابس، كما ارتدى عارضون وعارضات أزياءً لي، وشاركوا في جلسات تصوير من دون أن يطلبوا الحصول على أي مبالغ مالية. وبعدما نجح المشروع بتّ قادرة على دفع مستحقات هؤلاء الأشخاص بحسب إمكانياتي المادية، علماً أنني أرفض التعامل مع عارضين وعارضات مشهورين في مجال الأزياء، لأنني أفكر بتطوير مشروعي من خلال ربطه بنجاح عارضين جدد كي ننجح كلنا مع بعضنا البعض. وأنا أتعامل مع المهتمين بالموضة".
وتُعتبر مريم من أوائل الحرفيين في تونس الذين ينتجون ملابس خاصة بالهوية الأمازيغية. وهي ترى أن "الإنسان ابن البيئة التي ينشأ فيها ويتأثر بها. وفي دول عدة يناضل أشخاص من أجل إبراز ميزات ملابسهم الأصلية تمهيداً لفرض هويتهم والحفاظ عليها".
وتعلّق: "لا أرى في الشارع التونسي خلال الأيام العادية شيئاً يشبه هويتنا، وأنا أتحدر في الأصل من منطقة أم الشوشة ببئر علي بن خليفة بمحافظة صفاقس المعروفة بلبس الحْرَامْ والوشم والحلي، وبرقص شعبي معين وأكل خاص. ورغم أنني أعيش في مدينة صفاقس لكنني أزور منطقتي دائماً في الأعياد والأعراس والمناسبات، وأنا متعلقة بهوية قريتي، وأحرص على إظهار جمال الملابس التي كانت ترتديها جداتنا".
لا شيء يشبه هويتنا اليوم
وتذكر أيضاً: "دفعتني ثقافتي الفكرية والسياسية إلى التمسك بهذا الطريق، وإنتاج شيء مختلف، كما جعلني تنقلي في مناطق وأرياف وقرى عدة في الشمال والجنوب أرى الهوية التونسية من جهات مختلفة، وأتأكد في الوقت ذاته من أن حضورها الأكبر يتركز في الحياة اليومية لسكان الأرياف، خاصة كبار السن، في حين يختلف هذا الواقع في المدن التي شيّدت حائطاً بين التونسي وهويته الأصلية"، لذا لم نعد نرى فيها ما يشبهنا ويشبه هويتنا في اللباس. هناك هوية تندثر سواء على مستوى اللغتين العربية والأمازيغية أو على مستوى اللباس. وأنا لا أزعم أنني أناضل من أجل الأمازيغية، بل أعتبر أن الأمازيغية جزء من السيرورة التاريخية للبلاد، ولا بدّ من الحفاظ عليها. وفيما لم أجد أي شخص يعمل على هذا الموروث إلا لغوياً أو شكلياً، اخترت العمل على هذه الهوية، وانطلقت من الرموز والأشكال التي توجد في الوشم والتطريز، وعلى الزربية أو اللباس التقليدي وطرق النسيج القديمة والتفصيل وغيرها".
وعن تعدد أنواع اللباس التقليدي في تونس، تقول مريم: "توجد أشكال عدة من الملابس التقليدية في بلدنا، انتشر بعضها مع قدوم الإمبراطورية العثمانية، وأخرى من خلال نساء قدِمن من جزر البلقان. أيضاً تتعدد أنواع الملابس من الجبة إلى الفرملة وغيرها، وهذا جزء من تاريخ مهم في تونس. أيضا هناك أشكال أمازيغية مميزة، والتي اخترت شخصياً أن أعمل عليها وأحاول الحفاظ على تفاصيلها، مع إضافة لمسات خاصة تكسبها جمالية أكبر، وتزيد الرغبة في ارتدائها.
وتشير إلى "فقدان أنواع عدة من الأقمشة محلية الصنع، لذا أستعمل حالياً أقمشة مستوردة إلى جانب أخرى محلية الصنع كي أنتج ملابس تعبّر عن الهوية التونسية سواء في الشكل أو النوع أو تفاصيل التطريز. وأهتم بتطويع أقمشة لصنع ملابس عصرية تعبّر في الوقت نفسه عن الهوية التونسية، ويمكن ارتداؤها في الحياة اليومية سواء في البيت أو خارجه".
وتتحدث أيضاً عن أن "بعض الملابس التقليدية مثل المَلْيَة درجت قديماً بسبب غياب تقنيات الخياطة، فكانت المرأة التونسية في الأرياف تلف قماشاً كبيراً على جسمها وتربطه بحزام وتشدّه من الكتفين بمشبك يسمى الخلال يُصنع من الفضة غالباً. وفيما يختلف نوع قماش المَلْيَة وشكله القماش اعتمدت أقمشة محددة لإنتاج ملابس عصرية تعبّر عن الهوية التونسية، كما أعتمد في شكل أساسي على التطريز ورسم الأشكال الأمازيغية التي باتت غريبة وغير مفهومة اليوم، مثل الزيتونة التي كان الأمازيغ يقومون بوشمها بطريقة خاصة تعبّر عن التواصل والأرض والخصوبة".
وتشير إلى أنّ "المعارض تتركز في العاصمة أساساً، وإذا لم تشجع وزارة السياحة زيارة المناطق المختلفة، فسيتأثر حرفيون كثيرون، علماً أن أسواقاً داخلية عدة باتت فارغة حالياً".