داخل جدران الكرملين الأبيض في مدينة قازان، عاصمة جمهورية تتارستان في روسيا، ثمة بناية لافتة للأنظار لمسجد قول شريف الذي افتتح في 24 يونيو/ حزيران 2005، وسرعان ما تحول إلى رمز لتتارستان الجامعة بين الانفتاح على العالم وبقائها أحد أهم وأشهر مراكز الإسلام في البلاد.
ويحمل المسجد اسم الإمام قول شريف، وهو شخصية دينية ودبلوماسي وشاعر ترأس أحد مساجد قازان في عهد خانية قازان في القرن الـ16. كما يعد قول شريف نموذجاً للعمارة الإسلامية الحديثة مع مراعاة الخصائص المعمارية التتارية، وهو بذلك أكبر مسجد في قازان وتتارستان ويتسع لأكثر من 1500 مصلٍّ في آنٍ.
يقول الناطق باسم متحف كرملين قازان في إفادة لـ"العربي الجديد": "شكل مسجد قول شريف عند افتتاحه رمزاً للإصلاحات الديمقراطية في روسيا نهاية القرن الـ20 وتنامي الوعي القومي للتتار. ومنذ وضع حجر الأساس وحتى بناء المآذن، حظي المسجد باهتمام الأوساط الاجتماعية وقيادتي تتارستان وروسيا، ودعم مالي من شركات كبرى وحكومات دول أجنبية".
وسرعان ما تحول قول شريف إلى أحد المقاصد الرئيسية للسياح الروس والأجانب القادمين إلى قازان، فاتحاً أبوابه أمام معتنقي جميع الأديان شرط الالتزام بلباس يتناسب مع زيارة مسجد.
وإلى جانب الاستمتاع بالتصميم والزخرفة الفريدة من نوعها، يمكن للمهتمين الاستماع إلى التلاوة الحية للقرآن الكريم التي لا تتوقف منذ بداية عام 2015 إلا لفترات أداء الصلاة، ويقوم 12 حافظاً بختم القرآن يومياً، كما تمكن متابعة بث التلاوة أونلاين عبر موقع الإدارة الدينية لجمهورية تتارستان.
وما يلفت نظر زائر قازان أن المجمع المعماري للكرملين ومسجد قول شريف يهيمن عليهما اللون الأبيض على عكس الاعتقاد الشائع بأن جدران الكرملين تكون حتماً من اللون الأحمر كما هو حال كرملين موسكو. ويتحدث الناطق باسم المتحف عن سبب بياض الكرملين قائلاً: "شكلت قلعة بلغار الفولغا التي بنيت في القرنين العاشر والحادي عشر قاعدة للكرملين الحديث. وبعد سيطرة القيصر الروسي إيفان الرابع الملقب بالرهيب على قازان في القرن الـ16، بني محلها الكرملين الأبيض. يرجع هذا اللون إلى اعتماد الحجر الجيري الأبيض في البناء في ذلك العصر. أما اللون الأبيض لقول شريف، فيعود إلى كسوته من الرخام الأبيض الذي جُلب خصيصاً من مقاطعة تشيليابينسك الروسية".
ولما كانت كاتدرائية البشارة تقع على بعد أمتار من مسجد قول شريف، تحول كرملين قازان إلى نموذج للتعايش بين مختلف الثقافات والأديان، شأنه في ذلك شأن جمهورية تتارستان التي يقطنها التتار والروس وغيرهما من القوميات. وإلى جانب كونه داراً للعبادة، يضم مسجد قول شريف مخطوطات ومعارض تتناول وحدة الأديان الإبراهيمية، اليهودية والمسيحية والإسلام، فيما كتب في قاعة الصلاة للرجال أسماء أنبياء الأديان السماوية.
ويضم متحف الثقافة الإسلامية التابع للمسجد قطعاً تمثل نماذج للثقافات القومية والدينية لشعوب روسيا على امتداد القرون.
ومع انفتاح روسيا على العالمين العربي والإسلامي، تحول قول شريف إلى أحد المقاصد الرئيسية للطلاب والزائرين من أصول إسلامية، كما لا تمر زيارة لوفد رفيع من دولة إسلامية من دون جولة تفقدية في المسجد يهدي خلالها لمتحفها نسخة مزخرفة للمصحف الشريف.
وتعد تتارستان أحد أهم مراكز المسلمين في روسيا، إذ أظهر استطلاع أجري قبل بضع سنوات أن 72 في المائة من سكان قازان يعتنقون الإسلام. وعلى مستوى عموم تتارستان، تشير البيانات الإحصائية الرسمية الروسية عن عام 2010 إلى أن سكان تتارستان ينقسمون بصورة متساوية إلى التتار والروس بواقع نحو 48 في المائة لكل قومية منهما.
ويشكل التتار ثاني أكبر شعوب روسيا، إذ أظهر آخر تعداد للسكان أجري عام 2021 أن عدد التتار في روسيا يبلغ نحو 4.7 ملايين، لكنهم لم يسلموا، على غرار الشعوب السلافية والأوروبية، من تراجع معدلات الإنجاب، علماً أن عددهم بلغ نحو 5.3 ملايين في تعداد سابق أجري عام 2010.
وتاريخياً، يتركز وجود التتار منذ أزمنة قديمة على ضفاف نهر الفولغا التي تطل عليها قازان وغيرها من المدن الروسية، مثل نيجني نوفغورود وأوليانوفسك وسامارا.
والإسلام هو الديانة الثانية الأكثر انتشاراً في روسيا بعد المسيحية الأرثوذكسية، ويقدّر عدد المسلمين فيها بنحو 20 مليوناً يتركز أغلبهم في جمهوريات شمال القوقاز وتتارستان وبشكيريا، فضلاً عن موسكو التي يقطنها مليونا مسلم على الأقل، بمن فيهم المغتربون القادمون من الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى.