من خلال أعمال فنيّة أُنجزت بالنول والسنّارة صَوّرت محطات من حياة نساء من السويداء جنوب غربيّ سورية وأخريات نازحات من مناطق سورية أخرى، وُلد مشروع "قصاقيص" في إطار "فجّة خرق".
وكان مشغل "فجّة خرق" قد أبصر النور في أواخر عام 2017، على يد المتخصصة في العلاج النفسي خلود هنيدي التي رغبت في إعادة إحياء التراث وتجديد صنع فجج الخرق (بسط مصنوعة يدوياً) كما كانت تفعل الأمّهات والجدّات في زمن مضى، وفي الوقت نفسه منح نساء سوريات فرص عمل. وهكذا كان لسوريات هاربات من الحرب إلى أماكن أكثر أماناً نصيبهنّ في العمل، وكان للمشغل النصيب الأكبر من قصص وسرديات نساء حملنَ جراحهنّ إلى عائلة جديدة وأخوات في الوجع السوري.
قبل أن يتحوّل "قصاقيص" إلى مشروع بحدّ ذاته، كان معرضاً فنياً انطلق من مشغل "فجّة خرق" في عام 2021، وقد صوّر قصّة كلّ امرأة من السوريات المنخرطات فيه من خلال لوحة مغزولة. يُذكر أنّ هؤلاء النسوة تَشاركنَ مهاراتهنّ في النسيج وقصصهنّ الشخصية كذلك.
نسرين: وجدتُ إنسانيتنا وقيمتنا
نسرين واحدة من السوريات النازحات اللواتي استقررنَ في مدينة السويداء، علماً أنّها من مدينة دوما في ريف دمشق. تخبر نسرين "العربي الجديد" عن مأساتها، وتقول: "مات زوجي وهُدم بيتنا وهربت بأولادي إلى السويداء. كنت أحتاج إلى مأوى، وفي الوقت نفسه إلى مكان جديد ألقى فيه دعماً معنوياً ونفسياً ومادياً. كذلك كنت أحتاج إلى الشعور، أنا وأولادي، بأنّ أحداً لا يراقبنا ولا يلاحقنا في الطرقات ويقتحم بيتنا ويتحكّم بنا". تضيف نسرين أنّها سعت إلى "الطمأنينة التي أستطيع من خلالها استعادة توازني والبدء بترتيب حياتي وحياة أولادي" بعد فجيعة فقدان الزوج والأب.
أمّ إبراهيم بدأت تنسى بعض الذكريات والأشخاص، لا سيّما الجيران في حيّها، وقد قلّ تواصلها مع من بقي منهم أو رحل، فقرّرت أن تكتب "ما يشبه المذكّرات"
وعلى الرغم من صعوبة البداية والمشكلات المادية، وجدت نسرين عملاً في إطار "قصاقيص". بالنسبة إليها، فقد وجدت في ذلك ما هو أكبر وأغنى من الإنتاج ومن تيسير احتياجات البيت وقوت أولادها اليومي. وتقول: "وجدتُ ما افتقدناه جميعاً في هذه الحرب؛ إنسانيتنا وقيمتنا وقدرتنا على العطاء والبناء". وتبيّن نسرين أنّها تمكّنت أخيراً من تعليم ابنتها وتهريب أحد أبنائها إلى الخارج قبل أن يُساق إلى الخدمة العسكرية و"يعيدوه إليّ شهيداً".
أمّ حسام: كلّ شيء قاسٍ إنّما لا مستحيل
أمّ حسام امرأة سورية أخرى نزحت مع عائلتها من إدلب بشمال غرب سورية إلى مدينة السويداء، قبل أكثر من عشرة أعوام. تقول لـ"العربي الجديد": "بعد أن فقدت زوجي وخسرت منزلي واعتُقل ابني البكر في سجون النظام السوري، هربت إلى السويداء. ورحت أعمل في ورشة قصاقيص". وتؤكد أمّ حسام أنّ "هذا المكان أعطاني القوة والأمان وساعدني في التخفيف من جرحي وإحساسي بالفقد والوحدة، من خلال وجود نساء أخريات عانينَ الفقد والحزن والوحدة وتغلّبنَ على مآسيهنّ".
وتخبر أمّ حسام أنّه "على الرغم من كلّ محاولاتي لمعرفة مصير ابني المغيّب، وكلّ أملي بأنّه ما زال على قيد الحياة وبأنّي سأراه قريباً، اضطررت إلى استخراج بيان وفاة له كي أثبت أنّ ابني الثاني وحيد وأمنع عنه شرّ الخدمة العسكرية". بالنسبة إلى أم حسام، "كلّ شيء قاسٍ، غير أنّ ما من شيء مستحيل. لقد علّمت بناتي وأوصلتهنّ إلى المدارس والجامعة، فأنا لا أقبل أن أفرض عليهنّ ما فُرض عليّ في صغري؛ لن أُزوّجهنّ في سنّ مبكرة أو قبل إنهائهنّ دراستهنّ. كذلك سأسعى ما حييت لمعرفة مصير ابني وإحقاق الحقّ والعدالة".
أمّ إبراهيم.. تجربة أخرى
منذ أكثر من 12 عاماً، راحت سوريات نازحات كثيرات يتقاسمنَ الأحزان والفقد والقهر والاضطهاد السياسي والاضطهاد الاجتماعي والنزوح والهجرة. كذلك تحملنَ مسؤوليات وحاولنَ التأقلم في بيئات وفدنَ إليها، فدخلنَ إلى سوق العمل مع خبرات لا تتجاوز الأعمال المنزلية، وفي أحسن الأحوال تلك الزراعية. وكما جمعت الظروف نسوة في مشغل صغير بمدينة السويداء، التقت أخريات في مشغل لصناعة الألبسة بقرية عِرى غربيّ محافظة السويداء.
أمّ إبراهيم واحدة من مئات النساء اللواتي فقدنَ أزواجهنّ في مخيّم اليرموك، ثمّ رحلت بطفلَيها إلى العاصمة دمشق، مشيرة إلى أنّ "الله وهبني الصبر. ففي هذه الحرب، لا بدّ من دفن الماضي والنظر إلى الغد بعيون أطفال لا ذنب لهم بما فعل الآخرون". تضيف: "حملت طفلَيّ من دون أن أعرف إلى أيّ مكان أتوجّه. همّي الأوّل كان الأمان. وبعد أيام قضيناها في حدائق دمشق، انتقلنا بمركبة صغيرة إلى السويداء بصحبة عائلة من مدينة حرستا".
وتتابع أمّ إبراهيم: "منذ سنوات، وأنا أعمل وأعيش مع طفلَيّ هنا. أراقبهما وهما يكبران في كلّ لحظة. وفي كلّ حركة يقومان بها، أستذكر والدهما وأحلم بأنّ يكون على قيد الحياة ويراهما في يوم. أُحدّثهما عنه في كلّ يوم. من الضروري أن يعيش في ذاكرتَيهما. لن أقبل بأن تُمحى ذكراه، مهما كان هذا الزمان ظالماً".
وتشير أمّ إبراهيم إلى أنّها بدأت تنسى بعض الذكريات والأشخاص، ولا سيّما الجيران في حيّها، وقد قلّ تواصلها مع من بقي منهم أو رحل، فقرّرت أن تكتب "ما يشبه المذكّرات". وتقول: "تعثّرت في البداية. ماذا أكتب عن زوجي ومن أين أبدأ؟ هل أكتب له أم أكتب عنه؟ سأطلب له الرحمة من الله، سواء أكان حياً أم ميتاً. وسأكتفي بما رزقني الله من ذريّته، وسأكمل الطريق حتى أُوصلهما إلى برّ الأمان. ولن أدّخر طاقة حتى يحقّق ولدانا ما عجزنا نحن عنه، من تخلّص من الظلم وبناء وطن يسوده العدل".