معابد ماي سون... رموز حضارية وروحية في قلب فيتنام

26 ديسمبر 2024
معالم تاريخية عميقة ومعانٍ دينية خالدة لمعابد مي سون (العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تقع معابد ماي سون في فيتنام، وهي رمز لحضارة إمبراطورية تشامبا، وتتميز بتصميم يعكس التأثير الهندوسي والرموز الروحية.
- تعرضت المعابد لأضرار كبيرة بسبب الحروب، وتواجه تحديات بيئية وذخائر غير منفجرة تعيق الترميم واستكشاف المواقع.
- حصلت المعابد على اعتراف رسمي كموقع وطني خاص، وتعمل السلطات على خطط للحفاظ عليها وتعزيز السياحة المستدامة.

وسط غابات وتلال هادئة تشهد بقايا معابد ماي سون على حضارة إمبراطورية تشامبا في فيتنام التي تمتد جذورها أكثر من ألف عام، وتعكس رموزاً روحية تحتفي بالكون والإنسان 

تقع معابد ماي سون في فيتنام داخل حوض جيولوجي تحيط به سلسلة جبال تزود نهر ثو بون بالمياه، وهو نهر يعتبره السكان "مقدساً"، ويتدفق عبر المعابد قبل أن يصب في بحر الصين الجنوبي قرب مدينة هوي آن الساحلية. وتتجاوز تلك المعابد بموقعها الاستراتيجي الأثر التاريخي، لتمثّل حصناً طبيعياً صعب المنال.

عند زيارة معابد ماي سون، ومع عبور الجسر للوصول إليها يشعر الزائر كأنه يعبر الزمن ليحط رحاله في حضارة إمبراطورية "تشامبا" التي ازدهرت بين القرنين الرابع والثالث عشر الميلادي، واستلهمت فنونها وثقافتها من الحضارة الهندوسية الوافدة من الهند. 

يتوافد الزوار بشغف لاكتشاف تلك المعابد. وبينما ينشغل البعض بالتقاط صور تذكارية يكرّس آخرون وقتهم للتعمّق في قراءة تاريخ هذه الحضارة المنحوت بعناية على الطوب الأحمر. تبدأ الرحلة بركوب حافلة صغيرة تنقل الزوار خلال دقائق إلى قلب الموقع الأثري عبر طرقات ضيّقة ووعرة تزيد الشعور بجمال المغامرة.

عند الوصول يجول الزوّار بين المعابد التي تتميز ببساطتها وأناقتها، وتضمنها غرفاً ضيّقة ذات جدران سميكة ونوافذ صغيرة مزودة بقضبان حديدية، ما يشكل تصميماً معمارياً فريداً يعكس تلك الهندسة القديمة. ورغم تواضع حجم المعابد، لكنها تثير الإعجاب والرهبة لما تحمله من معالم تاريخية عميقة ورموز دينية خالدة.

من بين أبرز المشاهد التي تثير الانتباه، المناطق المحاطة بلافتات تحذير تمنع الاقتراب منها بسبب وجود ألغام خلفتها الحروب الماضية. وقد تركت الحرب الأميركية على فيتنام خصوصاً بصمتها القاسية على المعابد التي دمّرت أجزاء كبيرة منها، وتركت حفراً عميقة تشهد على عنف تلك المرحلة.

وتوفّر التصاميم المعمارية لمعابد ماي سون صورة حيّة للحياة الروحية والسياسية في مرحلة مهمة من تاريخ جنوب شرقي آسيا، كما تجسّد شكل جبل ميرو الأسطوري، وهو مركز الكون في المعتقدات الهندوسية. وقد بُنيت المعابد كي تكون بمثابة انعكاس أرضي للجبل المقدس ورموزاً روحية.

استغرقت عملية بناء هذه المعابد البرجية عشرة قرون من التطوير المستمر ضمن أراضي عشيرة دوا التي وحدت قبائل التشام، وأرست دعائم مملكة تشامبا في عام 192 ميلادية. وقد شُيدت تكريماً للآلهة الهندوسية، وعلى رأسها الإله "شيفا"، إلى جانب الآلهة "فيشنو" و"كريشنا". ورغم دخول البوذية الماهايانية إلى شمالي المملكة منذ القرن الرابع الميلادي، وترسخها تدريجياً، ظلت الهندوسية الشيفية هي الدين الرسمي للدولة.

ويحتضن موقع معابد ماي سون 71 نصباً تذكارياً وآثاراً مدفونة على مساحة واسعة تمثل التسلسل الزمني الكامل لتطور المعابد البرجية، وتذكّر بحقبة زاخرة من الإبداع المعماري والحضاري. ولعالم الآثار الفرنسي هنري بارمنتييه دور أساسي في توثيق وفهم أصالة الموقع وقيمته التاريخية منذ مطلع القرن العشرين، لكن الاهتمام بمعابد ماي سون يعود إلى القرن التاسع عشر عندما بدأ المؤرخون وعلماء الآثار في تسليط الضوء على أهمية هذه المعابد التي انفردت باستخدام تكنولوجيا متقدمة وزخارف معقدة محفورة بدقة على الطوب الأحمر لتشكل إرثاً معمارياً لا مثيل له.

ولا تقتصر الميزات الفريدة لمعابد ماي سون على روعة العمارة، بل تشمل أيضاً حفاظه على طابعها المقدس وسط بيئتها الطبيعية الأصلية. وبدأت جهود الحفاظ على الموقع أوائل القرن العشرين بعدما اكتشفها علماء الآثار الفرنسيين، لكن الحروب المختلفة، وبينها الحرب العالمية الثانية والحروب الهندية الصينية تسببت في أضرار جسيمة بالعديد من المعابد. 

عبور إلى زمن حضارة إمبراطورية تشامبا، 18 ديسمبر 2024 (العربي الجديد)
عبور إلى زمن حضارة إمبراطورية تشامبا (العربي الجديد)

ورغم الأضرار التي لحقت بها على مدى عقود ظلت عمليات الترميم التي نفذّها خبراء فرنسيون وبولنديون محدودة التأثير على أصالتها، حيث ركّزت على الحفاظ على الجوهر المعماري من دون تغييرات. ومع ذلك لا تزال التحديات البيئية تشكل ضغطاً مستمراً، إذ تتعرض المعابد لخطر الفيضانات والرطوبة العالية، ما يؤثر على سلامة الهياكل المعمارية.

ورغم الجهود المبذولة لتوسيع مجرى النهر وإزالة النباتات المحيطة لتخفيف بعض هذه المخاطر يتمثّل التهديد الأكبر في الذخائر غير المنفجرة داخل المنطقة العازلة. ويشكل وجود الذخائر عير المنفجرة عقبة رئيسية أمام استكمال أعمال الترميم واستكشاف المواقع المكتشفة حديثاً، كما يؤثر بشكل مباشر على ترميم ثماني مناطق أثرية رئيسية.

إلى ذلك يُلقي هذا الخطر بظلاله على تجربة الزوار، حيث تثار تساؤلات مستمرة حول مستوى الأمان. ورغم الجهود الكثيفة وإزالة هذه الذخائر في أربعة معالم رئيسية منذ عام 1975، لكن العملية تمضي ببطء.

ويمثل تطوير الموقع جزءاً من مشروع ترعاه منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) ضمن منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بهدف الحفاظ على هذا الإرث العالمي. وعام 1979 حصلت معابد ماي سون على اعتراف رسمي باعتبارها معلماً وطنياً من قبل وزارة الثقافة الفيتنامية. وتوّج الاعتراف بتصنيفها بقرار حكومي كموقع وطني خاص عام 2009. وتلتزم السلطات المحلية والوطنية بحماية الموقع وفقاً لأحكام قانون التراث الثقافي لعام 2001، والذي عدّل عام 2009، لضمان استدامة هذا الكنز التاريخي للأجيال المقبلة.

رغم تواضع حجمها تثير معابد مي سون الإعجاب والرهبة، 18 ديسمبر 2024 (العربي الجديد)
رغم تواضع حجمها تثير معابد مي سون الإعجاب والرهبة (العربي الجديد)

ورغم بساطة المكان وما تبقّى من المعابد تزداد أعداد السياح في معابد ماي سون، لذا يُنصح بزيارته في الصباح الباكر لتجنب طوابير الانتظار والاستمتاع بجولة هادئة قبل ارتفاع درجات الحرارة في فترة الظهيرة. وبالتالي أصبحت إدارة القدرة الاستيعابية للموقع أولوية حيث تعمل السلطات لتطوير خطط مستقبلية توازن بين الحفاظ على الموقع وتعزيز السياحة المستدامة من أجل ضمان تجربة فريدة للزوار وحماية المعابد للأجيال القادمة.

المساهمون