معرض الكتاب بالدوحة.. حرف وريشة ومعزوفة وأشياء أخرى

20 يونيو 2023
احتفى المعرض بالكتاب مركزاً على أهمية القراءة وأثرها على الفرد والمجتمع (Getty)
+ الخط -

للمرة الثالثة خلال الأسبوع الجاري تقضي عائلة المهندس التونسي رامي القروم أكثر من سبع ساعات مُتجولة في معرض الدوحة الدولي للكتاب في الدورة الـ32 والتي حملت شعار بـ"القراءة نرتقي"؛ علما أن التظاهرة التي انطلقت في الثاني عشر من الشهر الجاري سيسدل عليها الستار في 21 يونيو/ حزيران الجاري.

يُصنِف القروم (39 عاما)، عائلته المقيمة في الدوحة منذ ثمانية أعوام والمكونة من زوجته ريم (36 عاما)، وطفليه التوأم عدنان وريتا (عشرة أعوام)، من العوائل الأدبية.

الأب يكتب الشعر الحر بجانب أنه قارئ نهم، وزوجته تعكف على تأليف مجموعة قصصية للأطفال، هذه الحالة الأدبية للزوجين انعكست على بيئة التوأم، إذ ظهرت موهبتهما في الرسم وفن إلقاء الشعر، خاصة الطفل عدنان.

في الموسم الماضي للمعرض لم يتجول أفراد العائلة أكثر من ساعة معا، إذ كان الأب العاشق للكتب يشعر بالثقل بصحبة أطفاله، لكن مع استحداث "واحة الأطفال" كإضافة جديدة لمعرض 2023، الأمر اختلف.

تقسم الواحة إلى عشرة أقسام وتضم ساحات متنوعة تمارس فيها جميع الأنشطة المتعلقة بالطفل، كورش فنية وأنشطة تفاعلية بصناعة الدمى وسرد القصص للأطفال، بالإضافة لورشة تحريك الدمى للأطفال يقدمها متخصصون في هذا الفن، بجانب مجموعة متنوعة من الأعمال المسرحية.

تم تخصيص فضاء خاص بالأطفال وأنشطتهم المتنوعة (نوشاد ثكايل/Getty)

هذه الزاوية أعطت الأب مساحة كافية للتجول لساعات بمفرده في أروقة المعرض الذي يحتوي على قرابة 505 دور نشر بمشاركة 37 دولة حول العالم، مع تسجيل نحو 180 ألف عنوان و750 ألف كتاب.

وعلى الجانب الآخر، منحت التوأم فرصة للمشاركة والانشغال بالفعاليات مع أقرانهما، وهو ما يشكل فرصة لتطوير موهبتهما، أما الأم ريم فركزت جولتها على دور النشر المختصة بقصص الأطفال.

"عدنان وريتا يقضيان ساعات متواصلة في الواحة، فيما أخذت راحتي في رصد ومتابعة مئات قصص الأطفال المعروضة، أشعر أنه أصبح لدي مخزون من خلال هذا الاطلاع المكثف، زوجي كل ساعتين يطل علينا لبرهة ثم يعود إلى جولته، هو الآن يعيش أكثر لحظاته سعادة". تقول الأم ريم وهي تقلب قصة "جحا في بلاد الجن" لكامل كيلاني.

على رف كتب تابع لدار النشر "سما" التي تقع يمين القاعة المركزية للمعرض، كان يقلب المهندس رامي القروم صفحات الرواية الفلسفية "عالم صوفي"، وسريعا انتقل لكتاب يتحدث عن "فضائل سورة البقرة"، لكنه فضل أن يشتري كتاب "الأم" للكاتب الروسي مكسيم غوركي الملقب بـ"الكاتب المُر".

يقول القروم: "أنا وعاء لكل شيء، لا أسمح لمعتقداتي الدينية والشخصية بالامتناع عن الاطلاع على أي شيء، لدي القدرة على قراءة مجموعة كتب تحمل توجهات مختلفة. المطالعة هي سفر دائم لي أو ربما هي سفر لعقلي وروحي، أحجز بطاقة طيراني حسب حالتي المزاجية للكتاب الذي أود قراءته".

توقف الرجل عن الحديث، وبدأ يسير بخطى هادئة حول الفتى صاحب العود، تميم العمري (18 عاما)، الذي كان يعزف مقطوعة لأغنية أم كلثوم "لسة فاكر"، في مكان مخصص وسط القاعة المركزية للموسيقى والمطربين.

الموسيقى كانت حاضرة بقوة ضمن فعاليات المعرض (Getty)

خصص مسرح دائري بحدود ثلاثة أمتار عرض وأخرى طول، محاط بثلاث درجات، وقد شارك فيه قرابة 15 فنانا خلال فترة المعرض، كل واحد اصطحب معه آلته ومقاطعه التي عرضها أمام الجمهور والزائرين.

الفنان العمري يتحدر من عائلة فنية وهو أصغر إخوته الخمسة وجميعهم يعزفون على العود، وقد ورثوا حب هذا الفن من والدهم عازف العود.

فقرة الفتى العمري أخذت صدى كبيراً من الجمهور، لقدرته على الإبداع في هذه القطعة الموسيقية رغم صغر سنه.

يعلق القروم: "لك أن تتخيل، وأنت تسير في بحر الكتب، تسمع فقط تقليبك لأوراقه والموسيقى وخاصة مقطعاً موسيقياً مثل هذا". للإشارة فأرضية المعرض مغطاة بقماش أزرق، لذلك فإن توصيف الرجل قد يكون قريبا.

بؤس في السودان

وسط حالة المتعة التي كان يعيشها القروم بفعل إيجاده الكتاب الذي كان بحاجة إليه مصحوبا بلحظة موسيقية، ثمة شخص يبعد عنه قرابة 40 مترا يجلس في دار النشر "عزة" السودانية، كان في حالة بؤس شديد، يرتب بعضا من الكتب، ومن بينها " كيف أضاعوا السودان؟" للكتاب عثمان ميرغني.

ذلك الشخص هو نور الهدى محمد، الأمين العام لاتحاد الناشرين السودانيين وصاحب دار نشر "عزة".

حالة البؤس كانت ممتدة على دور النشر السودانية المشاركة في المعرض وكان عددها ست، والتي شاركت بـ680 إصدارا، بالإضافة لـ164 عنوانا في آخر ثلاث شهور من العام الجاري.

يقول نور الهدى محمد إن دار النشر الخاصة به والتي شيدها منذ عام 98 وتقع في قلب الخرطوم حيث المعركة الدائرة بين الأطراف المتنازعة منذ نحو شهرين لا يعرف مصيرها حتى الآن.

يزيد: "خلال الأحداث الجارية في السودان تعرضت ست دور نشر للدمار والنهب، من بينها دار النشر السودانية التي تعد أكبر دار نشر في السودان وهي مكونة من خمسة طوابق".

بعيدا عن مصير دار نشره الخاصة، يرى الرجل أن أكبر ضحايا هذا الصراع الدائر هو ما تعرضت له مكتبة السودان التابعة لجامعة الخرطوم التي تحتوي على مليوني كتاب.

يكمل محمد، الذي قضى نصف قرن في مجال النشر: "لا نعلم ماذا حصل لمكتبة السودان، المعلومات هناك متضاربة، أهم ما ورد إلينا أنها احترقت بالكامل".

يرى الرجل أن احتراق المكتبة العريقة بجانب تدمير دار الوثائق المركزية، هو المعنى الدقيق لاحتراق (ذاكرة) السودان.

لكن بكل الأحوال يعتقد أنه طالما استطاعت بعض دور النشر السودانية المشاركة بمعرض الكتاب المقام في الدوحة رغم الظروف الراهنة، فذلك أحد الأدلة على أن الحالة الثقافية السودانية ستبقى صامدة.

لحظة اختتام حديثه، تقدم ستيني يسأله عن كتاب "إيقاظ الهمم في شرح الحكم"، فأشار محمد إلى نقطة "اسألني"، وهي نقطة استعلامات تقدم خدمة تحديد مكان وجود الكتاب من خلال أحد الموظفين بالاستعانة بتطبيق إلكتروني خاص بمعرض الكتاب.

وتتوزع أربع نقاط "اسألني" على مساحة المعرض، في حال لم يجد الزائر تطبيق المعرض يتوجه إلى هناك ويجد ضالته بسهولة.

على غازي، طالب جامعي متطوع في نقطة اسألني، يقول: "أكثر الأشخاص الذين نتعامل معهم هم كبار السن، فأغلبهم لا يستخدمون التطبيق". ويعمل غازي بصحبة 29 متطوعا موزعين على ثلاث فترات في أربع نقاط.

ومن بين الخدمات المقدمة للزائرين خدمة أو مبادرة "مرشد القراءة" وتستهدف الأشخاص الذين لم يخوضوا تجربة القراءة من قبل أو المبتدئين فيها.

وقدم المعرض الذي يستمر حتى 21 يونيو/حزيران الجاري برنامجاً ثقافياً ثرياً ومتنوعا، حيث يحتضن المسرح الرئيسي 37 ندوة ثقافية وعلمية وأدبية واجتماعية - أغلبها عقدت.

كما يشمل البرنامج 48 ورشة عن "تحليل شخصيات القصة" و"الكتابة الإبداعية" و"النحو للمؤلفين" و"السرد في الصحافة" و"التسويق الرقمي وكيفية استغلال الذكاء الاصطناعي"، أغلبها أنجز أيضا.

واستحدث المعرض هذا العام فعاليات منصة "الطهي الحي" بمشاركة 28 طاهيا وطاهية يقدمون عروضا ومأكولات من ثقافات ودول مختلفة.

ارتق لتكتمل

بعيدا عن بؤس السودان ولغة الأرقام وحديث الورشات، خلف المنصة الموسيقية، امتدت جدارية تعلق عليها لوحات ورسومات فنية بأنواع الفن، بعضها من المشاركين والمتطوعين، كما سمح للزائرين بالمشاركة في تعليق لوحاتهم.

وهذه إشارة إلى أن معرض الكتاب جمع كل أنواع الفنون والأدب، الرواية والشعر والنقد والموسيقى وحتى الفن التشكيلي.

بالموازاة كان هناك ركن خاص بالفنانة التشكيلية القطرية نور الشمري، والتي كانت منشغلة في وضع آخر لمساتها على اللوحة التي تحاكي المعرض، ويبلغ طولها متران وعرضها متر ونصف تقريبا.

بدأت الشمري برسم اللوحة في اليوم الثاني من الافتتاح، بمراقبة الجمهور والزائرين. وأرادت ابنة المدرسة الواقعية أن تقدم عملاً مركباً من خلال تقسيمه إلى لوحتين.

اللوحة الأولى أطلقت عليها اسم "ارتقاء"؛ ملخصها شكل فتاة، لكن مكان العينين والجبهة استبدلته بكتاب مفتوح كدليل على كثرة المطالعة والشغف في اقتناء الكتب، فيما ترتدي قميصاً أبيض كإشارة إلى أن القراءة والمطالعة المستمرة أعطت نوعا من الصفاء والنقاء الداخلي لتلك الفتاة.

اختارت الشمري اللون الأزرق الفاتح للإطار الخارجي والذي يحيط بالرأس، كإشارة إلى أن العالم المحيط بالفتاة يشبه المياه الضحلة، فالمستوى الفكري والأخلاقي التي تتمتع به الفتاة المُطلعة يتعكر في الفضاء الخارجي المنشغل بالهوامش.

في اللوحة الثانية والتي حملت اسم "اكتمال"، والتي كانت منبثقة عن الأولى، يظهر نصف وجه فتاة فيما الإطار أخذ اللون الأبيض.

تقول الشمري حول اللوحة الثانية: "الصفاء الداخلي التي كانت تعيشه (ارتقاء) أخيرا توسع إلى العالم الخارجي وبدأ الجميع يشعرون بجمال أفكارها وهالتها الطاغية بفعل القراءة، وهنا انتهى عصر الأزرق الفاتح فيما يسيطر الأبيض كدليل على النقاء التام".

وتختم رسالتها: "لن تكتمل حتى ترتقي، وأحد الطرق المختصرة لهذا هي المطالعة".

للخروج من المعرض هناك خمس بوابات، يُنصح الخروج من البوابة رقم (3)، لأن آخر ما تشاهده وتسمعه معزوفة موسيقية وربما تكون من عازف العود الفتى العمري.

المساهمون