كثيرة هي الدول التي تواجه تداعيات حادة من جراء تغير المناخ، من بينها هولندا، التي بدأت تشهد موجات جفاف وفيضانات وارتفاع في درجات الحرارة. من كاليفورنيا وتكساس في الولايات المتحدة الأميركية، إلى الهند والصين مروراً بالقارة الأوروبية، تُصارع أجزاء كثيرة من العالم التقلبات المناخية المتزايدة.
لم يعد ممكناً التغاضي عن عوامل البيئة المتطرفة، كالفيضانات التي ضربت مناطق مختلفة في آسيا الوسطى، والجفاف غير المسبوق الذي عاشته العديد من البلدان في أوروبا، وغيرها، لكن التأثيرات تبدو أكثر حدة بالنسبة إلى بعض الدول، منها هولندا، التي تعرف باسم البلاد المنخفضة لأن نحو ثلث أراضيها يقع تحت مستوى سطح البحر.
واجهت هولندا هذا الصيف موجة جفاف هي الأولى من نوعها في القرن الحالي، أدت إلى تكبد القطاع الزراعي خسائر كبيرة.
وتعدّ هولندا، واحدة من أكبر المنتجين الزراعيين في العالم، وتصدر ما قيمته 65 مليار يورو من الخضر والفاكهة والزهور واللحوم ومنتجات الألبان سنوياً، وتعتمد على الري كأساس لازدهار قطاعها الزراعي. بالتالي، فإنّ التقلبات المناخية بالنسبة إلى البلاد قد تكون أشد وطأة من غيرها من الدول، ويمكن قراءة تلك التأثيرات من خلال مؤشّرين، الأول: التغيّرات في معدل هطول الأمطار وغزارتها. فعلى الرغم من أن الأمطار في هولندا تتساقط تقريباً طوال العام، لكن خلال السنوات الماضية، تساقطت من دون توقف في العديد من المناطق، الأمر الذي أدى إلى حدوث أضرار جسيمة، وتحديداً في المنطقة الجنوبية من مقاطعة ليمبورغ. وربّما يؤدي استمرار هطول الأمطار إلى تآكل الساحل الهولندي، بحسب موقع DutchReview.
بالإضافة إلى ذلك، فإن احتمال فيضان الأنهار قد يرتفع في السنوات المقبلة. وبحسب وكالة التقييم البيئي الهولندية، فإن 29 في المائة من هولندا معرضة لخطر فيضان الأنهار، و55 في المائة من البلاد قد تغرق في المستقبل مع ارتفاع مستوى مياه البحر، الأمر الذي يعد خطراً جداً بالنسبة لهولندا الواقعة تحت انخفاض يصل إلى 5.53 متر تحت مستوى سطح البحر.
صحيح أن مشكلة الفيضانات بالنسبة إلى هولندا ليست جديدة، إلا أن المستقبل يحمل أخطاراً أكبر بكثير، قد تؤثر على حياة ملايين المواطنين.
المؤشر الثاني: التغيّرات في درجات الحرارة. في الوقت الراهن، تعاني هولندا من جراء الارتفاع الكبير في درجات الحرارة. ويشير الموقع الرسمي للحكومة الهولندية إلى ارتفاع درجات الحرارة بمقدار 0.8 درجة مئوية في العالم منذ عام 1900. إلا أن درجات الحرارة في هولندا ارتفعت بنحو 1.7 درجة في البلاد، وهذا أسرع بمرتين من ارتفاع متوسط درجة الحرارة في العالم، الأمر الذي له انعكاسات صحية وخصوصاً بالنسبة إلى كبار السن أو الفئات الضعيفة.
ومن شأن ارتفاع درجات الحرارة المساهمة على المدى القريب في تعرض البلاد لموجات جفاف، بعدما أدى الصيف الحار إلى انخفاض مستوى المياه في نهر الراين، الذي يغذيه ذوبان الجليد في جبال الألب، ويوفر الكثير من المياه العذبة في البلاد. في أغسطس/ أب الماضي، انخفض منسوب مياه نهر الراين مرة أخرى في إحدى نقاط القياس القياسية بالقرب من الحدود الهولندية، ووصل إلى أدنى مستوى تاريخي له وهو صفر سنتيمتر، وسط فترة من الطقس شديد الجفاف في أجزاء كثيرة من ألمانيا. كما تؤدي موجات الحرارة إلى زيادة نمو الطحالب في الأنهار، الأمر الذي يؤثر على جودة المياه.
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، واجهت مدينة إنشيده التي يبلغ عدد سكانها 159 ألف نسمة، نقصاً كبيراً في المياه، حتى أن المزارعين عمدوا إلى سحب المياه بشكل غير قانوني ليلاً من برك الماء، الأمر الذي دفع السلطات لإطلاق سلسلة من التحذيرات والغرامات ضد من يقوم بسرقة المياه، أو استغلالها بوسائل غير قانونية، بالإضافة إلى تركيب أجهزة مراقبة وكاميرات بهدف الردع.
وتواجه هولندا مشكلة أخرى تتعلق بشح مياه الأنهار، الأمر الذي ينعكس على الأعمال التجارية وحركة مرور السفن. على سبيل المثال، تحتاج السلطات إلى إرسال كميات هائلة من المياه العذبة إلى أسفل الأنهار لتتمكن السفن من الإبحار، إذ أدت موجة الجفاف إلى انخفاض مستوى مياه الأنهار. وبحسب تقرير لوكالة "رويترز"، يؤدي تباطؤ جريان الأنهار وانحسار البحيرات من جراء انخفاض مستويات المياه، إلى زيادة معدل الرواسب خاصة الرمال والطمي وجزيئات التربة الأخرى في قاع الأنهار والبحيرات، الأمر الذي أثر على نقل البضائع.
مؤخراً، بيّنت القناة الثانية في التلفزيون الألماني "زد دي أف" أنه وفقاً لحسابات معهد كيل للاقتصاد العالمي فإن الوضع الآن أكثر تأزماً مما كان عليه في عام 2018، عندما عرقل انخفاض الراين الشحن لفترة طويلة وأدى حينها إلى تراجع الإنتاج الصناعي بنحو 1.5 بالمائة، ويعود سبب الخطورة حالياً، بحسب المعهد، إلى أن محطات الطاقة التي تعمل بالفحم لها أهمية كبيرة لتوليد الكهرباء بسبب ندرة الغاز الروسي، وتتأثر إمدادات الفحم بشكل خاص مع محدودية النقل المائي. يشار إلى أن السفن تحتاج إلى منسوب مياه يصل لحوالي 1.5 متر لتتمكن من الملاحة بكامل حمولتها.
هذه الأسباب دفعت وزير البنية التحتية وإدارة المياه في هولندا مارك هاربرز لإطلاق تصريحات لا تخلو من التحذير. وقال بحسب وكالة "أسوشييتد برس": "لنقص المياه تأثير سلبي على الشحن والزراعة على وجه الخصوص". وحثّ الناس على "التفكير ملياً في ما إذا كان ينبغي عليهم غسل سيارتهم أو ملء حوض السباحة القابل للنفخ بالكامل، لافتاً إلى أن هولندا بلد مائي. لكن المياه ثمينة أيضاً".
تكثر الخطط التي تضعها السلطات لمواجهة مشاكل التغيرات المناخية، وتحديداً أزمة المياه. تاريخياً، اعتمدت هولندا على طواحين الهواء، وقد احتاجتها لتصريف المياه من أراضيها المنخفضة تحت مستوى سطح البحر. واستخدمت طواحين الهواء الهولندية أيضاً في الإنتاج الصناعي، كطحن الحبوب وإنتاج الورق والطلاء ونشر الأخشاب.
ومن أبرز مهام طواحين الهواء الهولندية ضخ المياه. وبدأت السلطات في ابتكار العديد من التقنيات لمواجهة أزمة المياه، إذ غيرت في تقنيات الري. فبدلاً من استخدام تقنيات الرش التقليدية حثت المزارعين على استخدام تقنيات حديثة، لتصبح قوة زراعية والمصدر الثاني في العالم للمنتجات الزراعية بعد الولايات المتحدة. لكن هذا العام، أثار الجفاف ومخاوف الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية في أوكرانيا نقاشاً حادًا حول ما إذا كانت هولندا قادرة على الاستمرار في الإنتاج الزراعي، وتحديداً زراعة أزهار التوليب الشهيرة، وغيرها، خاصة في ظل مشكلة المياه، ومشكلة الطاقة التي تتحكم بعمليات الري.
لمواجهة هذه التحديات، عمدت الحكومة الهولندية إلى إعادة ترتيب الأولويات الخاصة بالري، وتقليص الاستخدام البشري للمياه. وحثت المزارعين على إنشاء قنوات تصريف مائية عميقة لاستخراج كميات أقل من المياه من الأرض، كما حاولت السلطات تشجيع المزارعين على إبقاء الأرض رطبة والحفاظ على المياه من خلال أدوات زراعية مبتكرة.
وطالب عالم البيئة في معهد أبحاث المياه الهولندي KWR جيرون غورتس، بضرورة أن تبدأ البلاد بإعادة تدوير مياه مستنقعاتها الطبيعية. في الوقت الحالي، يقوم حالياً بتجارب عديدة على المستنقعات "المعاد ترطيبها"، والتي يمكن استخدامها كمراعٍ للجواميس المائية.
إلى ذلك، بدأت بعض الشركات الهولندية، بما فيها شركة "Dunea" لمياه الشرب، التي تزود ما يقارب 1.3 مليون شخص بمياه الشرب، بابتكار طرق جديدة لضخ المياه قليلة الملوحة، ومعالجتها تحت الأرض. حتى الآن، لم تبدأ البلاد في إقامة مشاريع للسيطرة على الفيضانات أو غير ذلك. لكن إذا أصبحت الأرض أكثر سخونة، فقد يحتاج القادة الهولنديون إلى البحث عن حلول جديدة.