لا ينكر محمود حسن (اسم مستعار)، وهو موظّف في وزارة الحكم المحلي الفلسطينية في مدينة رام الله، أنّه بات يتردّد قبل أن يكتب منشوراً على مواقع التواصل أو يعلّق على ما يكتبه الآخرون، بعدما ألغت الحكومة المادة 22 من مدونة السلوك وأخلاقيات الوظيفة العامة، والتي رأى فيها حسن تهديداً مبطناً للموظفين بعدم التعبير عن آرائهم ومواقفهم حيال الأحداث المختلفة. يقول حسن لـ "العربي الجديد": "حتى قبل إلغاء هذه المادة، كنّا نتعرض للمضايقات والتعليقات من بعض الزملاء والمديرين المقربين من السلطة والحكومة. فكيف سيكون الحال اليوم؟ لست محسوباً على أي فصيل سياسي، لكنني ككثيرين، لست راضياً على ظروفنا بشكل عام، سواء السياسية أو الاقتصادية، وهذا ما أكتبه على صفحتي في فيسبوك".
وزاد التضييق الذي يتعرض له حسن منذ اغتيال الناشط والمعارض السياسي، نزار بنات، في أواخر يونيو/ حزيران الماضي. ويقول حسن: "حالي حال آخرين، أعربت عن غضبي حيال جريمة قتل الرجل الذي كان يحارب الفساد بالكلمة فقط، وقد راجعني بعضهم في ما أكتبه وحضني على أن أخفف لهجتي حتى لا يلحق بي أي ضرر، سواء بالاعتقال لدى الأمن الفلسطيني أو في العمل. ومع إلغاء المادة 22، وصلت إلى قناعة بأن الأمر جدي. فالحكومة ستعاقب أي موظف ينتقدها".
وتنصّ المادة 22 من مدونة السلوك أنه "للموظّف الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غير ذلك من وسائل التعبير أو الفن، مع مراعاة أحكام التشريعات". كما تنصّ المادة على أنّه "يجب على الموظف عند إبداء رأي أو تعليق أو مشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي، أن يوضح أنه يمثّل رأيه الشخصي فقط، ولا تعكس (وجهة نظره) رأي الجهة الحكومية بها".
وتحاول مؤسسات حقوق الإنسان تشكيل جبهة ضاغطة رفضاً لإلغاء تلك المادة، مشيرة إلى أن القرار غير منفصل عن السياق والأحداث التي تمر بها فلسطين، وخصوصاً بعد مقتل بنات وما تبعه من عمليات قمع للمحتجين السلميين. وتشير إلى أنه لا يوجد في قانون الخدمة المدنية أي نص يقيد حرية الرأي والتعبير لدى الموظف. ويعد قرار مجلس الوزراء الفلسطيني مخالفاً لقانون الخدمة المدنية والاتفاقيات الدولية.
في هذا الإطار، يقول المستشار القانوني للائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان" بلال البرغوثي، لـ "العربي الجديد": "على ضوء حالة التراجع التي تشهدها الحريات العامة في فلسطين وتحديداً حرية الرأي والتعبير، وقد تعرض بعض موظفي القطاع العام في الفترة الأخيرة لتهديدات هدفت إلى تقييد حريتهم بالتعبير من خلال تعليمات شفهية معممة أو تهديدات مباشرة، وصلت في بعض الأحيان إلى الإقالة من الوظيفة العامة، أقدم مجلس الوزراء على إصدار القرار رقم 03 بتاريخ 05/07/2021، ألغى بموجبه المادة 22 من مدونة سلوك العاملين في الوظيفة العامة، وهو ما يتعارض مع المادة 19 ومادة 26 من القانون الأساسي، والتي تمنح المواطن الفلسطيني الحق المطلق بحرية الرأي والتعبير. وبالتالي في الإطار الدستوري، فإن قرار مجلس الوزراء يتعارض مع هذه المواد".
ويؤكد البرغوثي أن "لمدونات السلوك التزامات تطوعية وأخلاقية، والأصل أن تصدر عن أجسام للموظفين مثل النقابات، وليس عن مجلس الوزراء. واليوم، الحكومة تتفرد وتتلاعب بأحكام هذه المدونات، وهذا يعيدنا لمطلبنا الأساسي بأنها يجب أن تصدر عن الموظفين أنفسهم، وألا تكون على شكل لوائح تنظيمية تفرض على الموظفين".
وعما يترتب على إلغاء المادة، يشير البرغوثي إلى أن الخطوة تعد مساً خطيراً بحرية الرأي والتعبير، وقد يصبح بمقتضاها الموظف ملاحقاً لمجرد أن يعبر عن رأيه بصورة تتعارض مع السياسات الحكومية المنتهجة، ويترتب عليه أيضاً إمكانية أن تستند إليه لجان التحقيق التأديبي التي قد يخضع لها الموظف الحكومي في حال الادعاء بانتهاكه أو تقصيره في أداء الواجبات الوظيفية. وبالتالي، نحن نتحدث عن مساس بمنظومة المساءلة والشفافية بشكل عام". ويشدد البرغوثي على أن "الموظف مواطن يتمتع بحقوق المواطنة الكاملة، ومنها حقه في حرية الرأي والتعبير، ومن ثَم صفته الوظيفية لا تسقط عنه حقه في التعبير عن رأيه بشكل شخصي، وهذا مفترض ومحمي بموجب القانون".
الحكومة: الإلغاء لإزالة التعارض
وكانت الحكومة الفلسطينية قد أعلنت في بيان أصدرته في 29 يوليو/ تموز الماضي، أن الهدف من إلغاء المادة 22 من مدونة السلوك إزالة أي تعارض أو تقييد للحريات العامة. كل ما يشاع حول تقييد حرية التعبير مجاف للحقيقة، مشددة على التزام الحكومة بضمان حرية الرأي والتعبير المكفولة بموجب القانون الأساسي والمواثيق والمعاهدات الدولية التي انضمت إليها فلسطين والقوانين والتشريعات الوطنية السارية.
ويعلق البرغوثي على ذلك قائلاً: "صدمتنا بتبرير الحكومة لا تقل عن صدمتنا بالقرار نفسه. هذا إما استخفاف بعقول الناس، أو جهل قانوني لدى الحكومة ومستشاريها بأهمية هذه المادة".
من جهته، يؤكد الباحث في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم"، عمار جاموس، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن القرار الأخير ليس الوحيد، بل يندرج ضمن سلسلة قرارات اتخذت للتضييق على الحريات. في المقابل، تم الإبقاء على مواد مثل المادة 20 التي تمنع المس بهيبة الدولة والشخصيات الاعتبارية. ويقول جاموس: "واجبنا في الهيئة حث الحكومة على تعزيز الحقوق والحريات، وحق الموظف في التعبير عن رأيه. فالموظفون العموميون يوصفون بأنهم صفارات الإنذار، وهم أول من ينبهون على الأخطاء والتجاوزات فور وقوعها داخل المؤسسات الرسمية".
ويتابع جاموس: "علينا الدفع باتجاه العمل على تراجع الحكومة عن قرارها ومراجعة المنظومة القانونية برمتها، والإجراءات التي اتخذت على أرض الواقع، هناك تشريعات وقوانين أخرى تقيد الحريات مثل قانون الجرائم الإلكترونية، وبعض نصوص قانون العقوبات التي توجه تهماً مثل إطالة اللسان أو المس بالمقامات العليا لمن ينتقد تصرفات المسؤولين. كل هذه الإجراءات جاءت في سياق عدم احترام حقوق الإنسان. لذلك، لا بد من إعلاء الصوت بضرورة وقف تلك الانتهاكات".