ندى عيسى عيّاش: الرائحة (3)

23 سبتمبر 2024
دمار هائل في مخيم جباليا، 14 سبتمبر 2014 (محمود عيسى/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **شهادات الناجين من حرب غزة**: تروي سمر يزبك في "ذاكرة النقصان" قصصًا مؤلمة لناجين من الحرب في غزة، موثقة النقصان الجسدي والنفسي الذي يعاني منه الفلسطينيون.
- **قصة ندى عيسى عياش**: ندى، التي عادت إلى غزة لتحقيق حلمها، فقدت عائلتها في قصف إسرائيلي، وتعاني من جروح جسدية ونفسية، واصفة الحياة في غزة كسجن كبير مليء بالألم.
- **النزوح المتكرر والمعاناة المستمرة**: بعد فقدان منزلها، نزحت ندى عدة مرات تحت القصف، وعانت من نقص الرعاية الطبية والغذاء، لكنها تظل متمسكة بالأمل والإيمان.

هَذِه شهادَاتٌ لِناجِين وناجياتٍ من الحرْب فِي قِطَاع غَزَّة اِلتقيْتهم فِي البرْزخ. حِكايَاتٌ مَسمُولةٌ بِالْأشْواك تُحَاوِل التَّحْديق فِي الفاجعة، سِلْسلةُ قِصص توْثيقيَّةٍ تَبحَث فِي ثِيمة النُّقْصان. هُنَا بشر فَقدُوا كُلّ شَيْء: عائلاتهم، بُيوتهم، أطْرافهم، أحْشاءهم، قطعًا مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسُو عِظامَهم، حَوَاسّ زوَّدتْهم بِهَا البيولوجْيَا لِالْتقاط معْلوماتٍ عن العالم الخارجيِّ، وَرقَة تِينٍ توارِي سَوأَة خَطِيئَة لَم يقْترفوهَا، وَلغَة مُتماسكة لَم يُصبْهَا مَا أَصَاب أصْحابهَا مِن تشظٍ وَشَتاتٍ واسْتحالةٍ إِلى أَشلَاء مُتناثرة. قِصص النُّقْصان هَذِه؛ نُقْصان الأجْساد مِن أعْضائهَا، الخريطة مِن تضاريسهَا، التُّرْبة مِن بقْلهَا وقثَّائهَا وزيْتونهَا، البحْر مِن أسْماكه، القصائد مِن وزْنهَا وقافيتهَا، المنْظومة التَّعْليميَّة مِن أساتذتهَا وتلامذتهَا، المشافي مِن حَبَّة دَوَاء، قِصص تُحَاوِل الاكْتمال عَبْر روِي النُّقْصان، صَوْت الضحِية - التِي لَم تَعُد تَملِك غَيْر ذاكرتهَا فِعْلاً لِلْمقاومة - لِجَعل اللغَة البشريَّة الحسِّيَّة قَادِرة على تَجسِيد الألم أو النَّظر إِلَيه، إِنَّها مُحَاولَة لِرؤْية الإبادة مِن وُجهَة نظرٍ خَاصَّةٍ بِلحْظةٍ مُعَينَةٍ تَبحَث فِيمَا حدث لِفلسْطينيِّي غَزَّة بَعْد السَّابع مِن أُكتُوبَر.
هذهِ الشهاداتِ التي تكتُبُها الروائيّةُ سمر يزبك وتنشرُها "العربي الجديد" على حلقاتٍ ستصدُرُ لاحِقاً في كتابٍ يحمِلُ اسمَ "ذاكرة النّقصان".

 

ليسَ من الصحيحِ دائماً أنّ المآسي البشريّة تنتجُ النحيبَ والعويل تلقائياً على وجوهِ الضحايا، هذا غيرُ صحيحٍ البتّة! خطرتْ هذه الفكرةُ ببالي لحظةَ سمعتَها تحكي قصّتها. كانتْ ثابتةً في مكانها، وعلى الرغم من كلّ ما جرى معها، ورغم الألمّ اللامعقول الذي حملتْهُ الكلمات، لكنَّ عباراتها استمرتْ ثابتةً، أفكارُها غير مهتزةٍ. لم تكنْ من ذلك النوعِ من النساءِ الّلواتي يحتجنَ إلى تحريكِ أياديهنَّ باستمرار، بالمقابل بدَتْ وكأّنها تشبهُ تلك النساء اللواتي وصفّتهنّ الملاحم الشعبية القديمة، الّلواتي رغم كلّ العواصفِ والأعاصير، كنَّ واثقاتٍ أنَّ الزرعَ سينمو منْ جديدٍ.
أنَا ندى عِيسى عَيَّاش. عُمْرِي أرْبعون سنةً وبضْع حُرُوب، فَأن تَكون فِلسْطينيًّا يَعنِي بِالضَّرورة أنَّ الحرْب جُزْءٌ أَساسِيٌّ مِن زَمنِك وبطاقة هُويَّتك. ولدت فِي المنفى، ونلْتُ البكالورْيوس فِي التَّحاليل الطِّبِّيَّة، لَكِن من ذَا اَلذِي يَستطِيع مُقَاومَة اِسْم فِلسْطِين؟ مُذ وعيْتُ وَأنَا أُردِّد: سَأعُود إِلى فِلسْطِين، هِي بِلادي! مُذ وعيْتُ وَهذَا حلْمِي اَلوحِيد. وَعدتُ إِلى غَزَّة، وَتَزوجَتُ، وكوَّنتُ أُسرَةً صَغِيرَة تعيش فِي رِحَاب العائلة الكبيرة فِي مُخيَّم جَبَاليَا، فِي بِنَاءٍ كبير يَجمَع الإخْوة والْأخوات والْأجْداد والْأحْفاد والْآباء والْأبْناء، وعملتُ مُعَلمَة فِي وِكالة الغوْث / الأونْروَا. وَهنَا، فِي غَزَّة الآبَاء والْأجْداد، بقيتُ لِأخْدم اللَّاجئين الفلسْطينيِّين مِن خِلَال عَملِي فِي الوكالة. فِي أُونُروَا غَزَّة ثَلاثَة عشر أَلْف مُوظَّفٍ، وَكَان رَقمِي الوظيفيِّ 10214280. هذَا عدَا نَشاطِي فِي مُنظمَات مُجتَمَعٍ دَولِيٍّ إِنْسانيَّةٍ وتنْمويَّةٍ وإغاثيَّة، مِثْل مَيرسِي كِيور وَغيرِها. لَسْت مُنتميَةً لِأيِّ فصيلٍ أو حِزْبٍ، لَا عَلاقَة لِي بِحماس، ولَا أَهتَم بِالسُّلْطة الوطنيَّة الفلسْطينيَّة، كُلُّ اَلذِي أَردَته، مَثل غَيرِي مِن الفلسْطينيِّين، أن أعيشَ بِسلامٍ.
 حَققَت حُلْمِي، وَكُنت رَاضِيةً لِأَني أَقُوم بِمساعدة أَبنَاء بَلدِي، لَكِن هذَا لَا يَعنِي أَننَا كُنَّا نعيش فِي فِرْدوْس. أخْبرتك أنَّ الحرْب أَساسِيّةٌ فِي حَياتِنا، وقد عِشْتُ هُنَا أَربَع حُرُوبٍ رُبمَا. لَكِن تِلْك كَانَت حُروبًا، القصْف فِيهَا بِالتَّقْسيط، الموْتُ والدَّمار فِيهَا يجيئَان على مَهْلٍ، لَم تَكُن إِبادة، وكانتْ لَديْنَا دوْمًا حَقِيبَة طَوارِئ تَحوِي مزيجًا فريدًا مِن الذِّكْريات والضَّروريَّات لِنحْملهَا فَوْر أيِّ قَصْفٍ ونخْرج. ثُمَّ إِنَّ الإسْرائيليِّين يُكرِّرون دائمًا أَنهُم لَا يسْتهْدفون غَيْر حَمَاس، وَأنَا لَسْت حَمَاس. ثُمَّ إِنَّ الإسْرائيليِّين يكْذبون دائمًا، وَأنَا أُريد أن أُصدِّق أَنهُم لَن يُسْتهْدفوا عَامِلةً فِي مُنَظمَةٍ دَولِيةٍ إِنْسانيَّة مُسَالمَة. ثُمَّ إِنَّ الإسْرائيليِّين قَصفُوا فِي الحرْب الماضية دار جِيراني اَلتِي لَا تُؤْوِي رِجَال حَمَاس، وَأنَا أَعرِف أَنهُم يعْرفون كُلّ شَيْء عَنَّا وَكُل كَبِيرَة وَصَغيرَة. تَفهمِين عَلِي؟ كَامَيرات، اِسْتخْبارات، درونَات. لِذَا؛ حِين بَدأَت الحرْبُ الحاليَّةُ قَلَّتُ: لَن نَخرُجَ، سنبْقى فِي بيْتنَا. كذَا قَررَت عائلتاي الصَّغيرة والْكبيرة، لَن يَكُون الأمْر مُخْتلِفًا عن المرَّات السَّابقة. لَكِن تِلْك كَانَت حُروبًا كمَا أخْبرتُك، أَمَّا مَا يَحدُث مَعنَا الآن فنحْتَاج اَلجُنون كيْ نَتَخيلَه، ثُمَّ كيّ نُصَدقَه.

 10/ 10/ 2023 

فِي صَبَاح ذاك اليوْم، السَّاعة العاشرة والنِّصْف، قصف الإسْرائيليُّون دار العائلة. لَم يَشفَع لَنَا أنَّ بيْتنَا الواقع فِي بِرْكَة أَبُو رَاشِد فِي مُخيَّم جَبَاليَا يُجَاوِر مَدْرَسةً مِن مَدارِس الأونْروَا بَاتَت مُكْتظَّة بِالنَّازحين. أخْبرتك أَنهُم يعْرفون كُلُّ شَيْء، وَلَعلَّك تُدْركِين الآن أنَّ رَغبَتِي فِي تصْديقهم جَعلَت سُقُوط صاروخيْنِ فِي قَلْب بِنايتنَا مُفَاجأَةً كَبِيرَة لِي. لَم أَكُن فِي ذَلِك الصَّبَاح فِي أَحسَن أحْوالي. كَانَت دَرجَة حرارَتي مُرتفعَة وأشْعر بِإنْهَاك شديد، والْحمَّى تُمَارِس هِوايتهَا فِي إِسْلامي لِلْهذيانات وغياب الوعْي. لِسَببٍ مَا، قلت لِزوْجيٍّ، حُسَام أحمد 42 سنة، أن يَأخُذ الولديْنِ، علَا 8 سَنَوات ومحمَّد 5 سَنَوات، لِيسلِّمَا على جَدّهِما وَجدّتِهما وأعْمامهما وعمَّاتهما. لَا! لَا أَظُن أَنِّي كُنْت أَتنَبأ بِمَا سيحْدث، لَا أَظُن أنَّ لِلْحمَّى خاصِّيَّة شَحْذ الحدْس وَكشَف الغيْب. كُلُّ مَا فِي الأمْر أنَّ هذَا مِن الأشْياء اَلتِي أحبّ أن يفْعلَهَا وَلَداي، أن يظلُّوا على اِرتِباطٍ مع بَقيَّة أَفرَاد العائلة. 
العائلة وطنٌ صغيرٌ، دُميَةٌ صَغِيرَةٌ تقع فِي رَحِم دُمًىً أَكبَر تَنتَهِي بِالْأمِّ فِلسْطِين. بِأيِّ شَيْءٍ غَيْر هذَا نُحقِّق اِنْتماءنَا ونؤكِّده؟ فِي زمن غِيابِهم، خَمْس دَقائِق مثلا؟ أَكثَر؟ أقلَّ؟ لَا تُجيد اَلحُمى حِسَاب الوقْتِ، فِي زمن غِيابِهم نزل الصَّاروخان. صاروخان مِن صَوارِيخ الشَّفْط كمَا تُسمَّى. فِي أَوَّل الأمْر لَم أَسمَع شيْئًا، لَا تَسمعِين شيْئًا حِين تَكونِين هدفًا لِلْموْتِ. فِي أَوَّل الأمْر لَم أَفهَم شيْئًا، كُنْت أطير مَصحُوبةً بِالْحمَّى وبكابوسٍ بَشِعٍ لَن يُوقظَني مِنْهمَا إِلَّا اِرتِطامٌ عنيفٌ بِالْأَرْض وركامٌ هَائِلٌ نزل عَلِي ودفنَني تَحْت الرَّدْم. لَا تريْن ذَلِك، لَكِن تَحْت ثِيابي جِسْمًا مَحرُوقاً بِكامِله، وَفِي رَأسِي شقٌ اِحْتَاج مِن اَلطبِيب ثَلاثِين قُطبَةً. لَحَظتهَا لَم أَشعُر بِشَيء، هُمَا ثانيتان طِرْتُ فِيهمَا وسقطتْ بيْنمَا كان الصَّاروخان يشْفطَان أَروَاح خَمسَة وَعشرِين شخْصًا مِن عَائِلة زوجي. الجدَّة، الأعْمام والْعمَّات، أوْلادهم، كُلهُم رَحلُوا. فِي هذَا اَلجُنون اَلذِي تسمّينه حرْبًا لَا يَستغْرِق شَفْط خَمسَة وَعشرِين رُوحًا أَكثَر مِن ثانيتيْنِ. وبمعْجزة لَا أفْهمهَا إِلى الآن نجَا زَوجِي، وَنجَا وَلَداي، ونجوْتُ. هَذِه إِرادة ربِّ العالميْنِ. 
اِختفَت العائلة فِي لَمح البصر، قضى اَلجمِيع تَحْت الأنْقاض، وانْتشلتْ اَلجُثث تِباعًا. وَأنَا تَحْت الأنْقاض سُمعَت صُرَاخ اِبنتِي علَا، كَانَت تُنَادِي على أَبِيهَا. لَيْس صُرَاخهَا وَحسب، سمعَت صُرَاخاً يَأتِي مِن كُلِّ مَكَان، سمعَت صَوْت وَالِد زَوجِي يُنَادِي على اِبنتِي باحثًا عَنهَا، وكانتْ الأرْض مِن حوْلنَا تَشتَعِل بِالنَّار كأنَّنَا فِي مَوقِدٍ حَجرِيٍّ. عَلمْت لَاحقًا أنَّ اَلجَدّ تَتبّع صَوْت حفيدَته حَتَّى عَثر عليْهَا، ثُمَّ نَبش بأظفاره لِيمْنحهَا بِعض اَلْهَواء. كَادَت اِبنتِي الصَّغيرة تَمُوت اِخْتناقًا! كَادَت تُدفن حَيَّة! عَلمت لَاحقًا أَنهُم اِجْتمعوا وحفروا بِأيْديهم وأصابعهم وأظْفارهم وجلودهم حَتَّى انْتشلوهَا. لَم تَكُن لَديهِم آلاتٌ أو أَدوَات، فَعلُوا ذَلِك بِغريزتهم اَلتِي نمتْ وصارتْ مُعْجِزة، ونجحوا، وانْتشلوا علَا مع سِيخ حديد يَختَرِق رجلَها. 
فِي ذَلِك الوقْتِ كُلِّه كُنْت لَا أَزَال تَحْت الأنْقاض، كُنْت أسْمعهم يَصرُخون بَاحثِين عن أَحيَاء. لَم أَكُن أَظُن أَنِّي حَيَّةٌ، فَلِم أَتعَب نَفسِي بِالرَّدِّ عَليهِم. كُنْت على يقين مِن أَنِّي مُتُ، أَنِّي أُغَادِر هذَا العالم، وأنَّ كُلَّ مَا يَحدُث حَولِي لَيْس سِوى مَا يَحُف اَلطرِيق إِلى العالم الآخر. بل مَا كان لِيتغَيَّر شَيْءٌ حَتَّى لَو لَم أَبلُغ ذَلِك اَليقِين، فقد شَعرَت بِأَني فَقدَت اَلقُدرة على الكلَام، بل نسيته كأنِّي لَم أتعلَّمْه يوْمًا. لَم أَصرُخ مِن الرُّعْب ولَا مِن الألم، لَم أَتفَوه بِكلمة، وحدهَا يَدِي اِمْتدَّتْ مِن بَيْن الرُّكَام مِثلَما يَخرُج أَوَّل النَّبَات فعرفوا مَكانِي. الجد هُو اَلذِي رأى يَدِي، فأسْرع إِليّ وَبدَأ يَحفِر حَولِي وينْتشلني. حِينهَا اِسْتعَاد فَمِي ذاكرَته وبدأتْ بِالصُّراخ. ألمٌ رهيبٌ، ألمٌ لَا أَستطِيع أن أَصفَه، بل إِنِّي لَم أَعرِف مَصْدَره بِالضَّبْط، كان جَسدِي كأن لحمَةً مُهترئَةً تَتَقطَّع، كأن أَحدهم كان يَسلَخ جِلْدِي مِن رَأسِي إِلى قَدمِي. هذَا أَفضَلُ مَا أقدرُ أن أَصِفَ بِه حَالِي ساعتَهَا، كُنْتُ كُلِّي ألمًا. هذَا لَا يَعنِي أَنِّي عَرفَت حِينهَا أَنِّي حَيَّةٌ، فقد يَكُون ذاك النَّوْع مِن الألم جُزْءًا مِن وَقائِع الموْتِ.
صمتَتْ للحظة وأرجعتْ ظهرها للخلف، ثمّ سألتنِي مباشرةً إنْ كانتْ قدْ استفاضَتْ بالحديث، أدركْتُ وقتها أنّها كانتْ تنتقي كلماتِها بعنايةٍ كي لا يفلتَ منها ما قد يدعو للشفقة. إنْ كان للكرامةِ من ملامح تظهرُ على وجوهِ البشر، فقد رأيتُها على وجهِها تلكَ اللحظة.

سجن اسمه غزّة

فِي المشْفى الإنْدونيسيِّ، اَلذِي سَيقصف لَاحقًا مِثْل كُلِّ شَيْءٍ فِي غَزَّة، اِكْتشَفت أَنِّي لَم أَمُت بَعْد. إِلَيه أَخذُوني بَعْد اِنْتشالي، وهناك، مِن بَيْن كُلِّ أَصوَات الألم والْأنين والرُّعْب، مَيّزت صَوْت علَا تَصرُخ مِن السِّيخ اَلذِي لَا تَزَال رجلهَا تَحملُه، وَكَان صَوتُها عَلامَة حَيَاةٍ. وَفِي المشْفى، اَلذِي أخْرجوني مِنْه سريعًا على الرّغْم مِن جُروحي وَحرُوقي وَمزق اللَّحْم اَلتِي تَتَكوَّم على عِظامي، عَرفَت اَلذِي حلَّ بِالْعائلة. كُنَّا النَّاجين الوحيدين، وَعلَى زَوجِي الآن أن يَدفِن خَمسَة وَعشرِين واحدًا مِن أَفرَاد عائلَته. والْقَصْف لَا يَهدَأ. 
يُلْقِي الإسْرائيليُّون منْشوراتهم التَّحْذيريَّة ويقْصفون فوْرًا. يُلْقُون منْشوراتهم ولَا يَترُكون لِلنَّاس وقْتًا يحْزمون فِيه أغْراضهم ويحْصون أجْسادهم ويخْرجون بِشَيء غَيْر الثِّيَاب اَلتِي تَستُرهم. يلْقوْنهَا كأنَّهم يُقيمون عليْنَا اَلحُجة بِهَا: أنْذرْناكم! وَهِي مُجرَّد كِذْبَة كَبِيرَة، مِثْل كُلِّ أكاذيبهم اَلتِي يُصَدقهَا العالم لِينام مُسْتريحًا، وَالتِي أُريد أن أُصَدقهَا كيْ أَستطِيع الحيَاة. كِذْبَة كَبِيرَة، نعم، لِأنَّهم سيقْصفون فَوْر إِلقَاء المنْشورات، سيقْصفون دُون تَميِيز، سيقْصفون ولو لَم يُلْقُوها، سيقْصفون المدارس والْمشافي وَالخِيم وأماكن إِيوَاء النَّازحين. لَا تَزالِين تَذكرِين التَّاريخ؟ كُلُّ اَلذِي قصصْته عليْك إِلى الآن حدث فِي العاشر مِن أُكتُوبَر، وَكُل هذَا والاقْتحام البرِّيُّ لَم يَبدَأ بَعْد. كان قَتلُهم إِيَّانَا يَنزِل عليْنَا مِن السَّمَاء. لَيسَت الحرْب أمْرًا جديدًا عليْنَا، حَيَاتنَا مَأْسَاة، حَيَاتنَا حَرْب، هَذِه جُملَة إن سمعت قائلهَا اِعرفِي فوْرًا أَنَّه فِلسْطينيٌّ. أخْبرَتْك بِذَلك، أَعتَذر مِن تكْراري الكلَام. 
عاش أجْدادنَا الحرْب، عاشهَا آباؤنَا، عِشْناهَا نَحْن وأوْلادنَا، فِي عائلتنَا شُهَداء مُنْذ زمن، أُخْت زَوجِي أَرمَلة، فَزَوجهَا شهيد، قُتِل فِي حَرْب 2008، لَا جديد فِي هذَا، لَكِن لَم يَكُن الوضْع مَرَّة بِهَذه الصُّورة، لَيْس هَكذَا. نَحْن سُجَناء فِي غَزَّة مُنْذ سنوات طويلة! هَلَّا أَخبَرت العالم أَننَا كُنَّا نعيش فِي سِجْن كبير اِسْمه قِطَاع غَزَّة؟ مُنْذ عِشْرين سنة أعيش فِي القطَاع، أعيش الموْت، مَوْت يجيء وموْت يَذهَب، أَربَع حُرُوب رُبمَا، أو خَمْس، لَا أُجيد اَلعَد، لَكِن لَم يَكُن يَصِل الأمْر إِلى حدِّ الإبادة. تَحملَت الحيَاة هُنَا لِأَنه وَطنِي، لِأَنه حُلْمِي، ولأنِّي أعيش مع عائلَتي الكبيرة الحميمة. هذَا وَأنَا أَنتَمي إِلى أَعلَى الطَّبَقة المتوسِّطة وأعاني على الرّغْم مِن ذَلِك، فكيْف بِالْآخرين؟ الحيَاة صَعبَة فِي السِّجْن، ولَا يُخفِّف مِن صُعوبتهَا أن تَكُون مِساحة السِّجْن أَكبَر مِن المأْلوف. عِشْتُ عِدَّة حُرُوب، نَخرُج مِن حَرْب لِندْخل فِي أُخرَى، هذَا عدَا الغارات اَلْجَوية المتفرِّقة اَلتِي تَشنهَا إِسْرائيل بَيْن الفيْنة والْفيْنة، لَكِن كُلّ مَا سبق يَبدُو لِي الآن ألْعابًا تَافِهة. فِي كُلِّ سنة يَحدُث عُدْوان إِسْرائيليٍّ، يَحدُث قَصْف عنيف، يَحدُث قَتْل دُون تَميِيز، لَكِن هَذِه المرَّة الوضْع مُخْتَلِف: يُوجَد قَرَار بِالْإبادة. 
عانيْنَا كثيرًا فِي سِجْننَا اَلكبِير، لَا كهْربَاء، لَا ماء، لَا أَماكِن يَذهَب إِليْهَا الأوْلاد، مَصاعِب لَا تُحصَى فِي كُلِّ خُطوَة نَخطُوها، كُنْت أَبقَى أحْيانًا أَربَعة أَيَّام فِي مَعبَر رفح لِأسْتطيع السَّفر، حُرُوب لَا تَنتَهِي، حِرْمَان مِن أَبسَط مَتَّع الحيَاة، أَقصِد بِالضَّبْط اَلمُتع اَلتِي كَانَت ترفًا لَنَا وجزْءًا عاديًّا مِن يوْميَّات شُعُوب الأرْض. لَكِننَا صَبرنا، رُبمَا كَانَت لَدى الإنْسان قُدرَة على تَحمُّل اَلجحِيم حِين يَكُون اَلجحِيم مُتقطِّعًا. صَبرنا، أَيَّام وَتمُر، زمن وَيمضِي، وَهذِه أرْضنَا، وَأنَا أُريد أن أعيش فِي غَزَّة، أحبَّ غَزَّة، لِذَا؛ كان قَرَارنَا دوْمًا البقَاء، لَم نُفكِّر فِي المغادرة قطُّ.

النّزوح، والنّزوح مكررا

مع الأيَّام اِلتهَبتْ رجلي مِن إِنتَان جُروحِهَا. فِيهَا جُرُوحٌ كَثِيرَة، انْظُري، ذهبتْ أَجزَاءٌ مِن لَحمِي. عَادِي أَخبرك أَنِّي صِرْتُ أَشعُر بِأنَّ جِسْمِي نَاقِصٌ؟ أصابَني نَزْفٌ مهبلِيٌّ، وَبقِي مُدَّة طَوِيلَة. تَوَاصلت مع أطبَّاء لَأعرِف سبب هذَا النَّزْف. جميعهم قَالُوا إِنَّهم لَا يعْرفون مَا يَحدُث، قَالُوا إِنَّ الإسْرائيليِّين يسْتخْدمون أَسلِحةً جَدِيدَةً ومحْظورة. سُمُومٌ وَمَواد كِيمْيائيَّةٍ أُلقِيت عليْنَا تسبّب أعْراضًا غَرِيبَةً. لَيْس دمًا وحسْب، كُنْت أرى كُتَلاً لَحمِية وَدموِية تَخرُج مِنِّي. كُنْت أَشعُر بِشَيء يَتَقطَّع دَاخِل بَطنِي ثُمَّ يَخرجُ، بَعْد ذَلِك اِنْقطَعتْ دوْرتيْ الشَّهْريَّة. فظيع. رُبمَا نَفذَت السُّموم مِن خِلَال جِلْدِي أو اِمْتصَّتْهَا جُروحي. عانيْتُ مِن الالْتهابات فِي كُلِّ جُزْءٍ مِن جَسدِي، وَجرُوحي لَا تَلتَئِم. هذَا حال الجسد، أَمَّا مَا يَعتَمِل فِي نَفسِي فلَا أَستطِيع وَصفُه لَك، لَن تُسْعفَني لُغتَي. أَبكِي طِوال الوقْتِ، نَبكِي أَربَعاً وَعشرِين سَاعَةً فِي اليوْم، كُلُّ الَّذين أحبّهم رَحلُوا. أَطفَالٌ أَبرِياءٌ بديْعون كالزُّهور تبخَّروا فَجأَة، رُضَّعٌ لَا يَزَال أثر اَلحلِيب على شِفاهِهم مَاتُوا مُخْتنقين بِالْموادِّ الكيمْيائيَّة، الجدَّة اللَّطيفة مِثْل نَسمَةٍ رَبيعِية، الجدَّة اَلتِي كُنْت إن سَألَنِي أَحدُهم: لِمَ لَا تَتركِين غَزَّة؟ أجبْته مِن فَورِي: لَا أَترُك الجدَّة الطَّيِّبة، تِلْك الجدَّة رَحلَت. لي سَبعَة أَشهُر لَا أَكُف عن التَّفْكير فِي هذَا، فِي عَائِلةٍ كَانَت سَكنِي وانْتمائي، فِي دارٍ كَانَت وَطنِي اَلصغِير الدَّافئ، كُلُّ شَيْء اِختفَى فِي ثَوَان، كُلُّ شَيْء بات مُجرَّد ذِكْريَات.
 اِنْتقلْنَا شمالاً، إِلى دار أَهلِي فِي الصّفْتاوي، وَأنَا على كُرْسِيٍّ مُتَحركٍ. مَا مِن شَيْء سيثير دهْشتك إِن أخْبرَتك أَنّنَا نزحْنَا تَحْت القصْف، لَكِن أَثَار دَهشَتِي أنَّ القصْف على شِدَّته لَم يَكُن كافيًا لِإسْكَات أوْجاعي. لَم أَكُن أَتَداوَى بِغَير مُضادَّاتٍ حَيَويَّة فَمَويَّة، وَكُنت عَاجِزة عن الحرَكة، وابْنَتي بِحاجة لِلْأوكسجين مِن أثر اِخْتناقهَا تَحْت الرَّدْم، وَزوجِي لَا يَزَال يُحَاوِل دَفْن مَوْتَاه. أَبِي المقْعد اَلذِي يَشكُو مِن ضَعْف فِي البصر شديدٍ وأمْرَاضٍ كَثِيرَة، أُمِّي اَلمسِنة، أَخِي ذُو الأطْفال السَّبْعة، أُخْتِي وَزَوجهَا، وَأنَا مع اِبنتِي، لَم يُمْهلْنَا اَلجُنون أَكثَر مِن يوْميْنِ. يَوْمان فقط، يَوْمان بَعْد المجْزرة، فِي الثَّاني عشر مِن أُكتُوبَر أَلقَى عليْنَا الإسْرائيليُّون منْشوراتهم تِلْك. هُو الرُّعْب، هُو يَوْم الحشْر اَلذِي يَأتِي مِثْل لِصٍّ وأهْل البيْتِ نِيَام، هِي اللَّحظات اَلتِي يَجمَع فِيهَا الأهْل مِن يَجدُونه حوْلهم مِن أوْلادهم ثُمَّ يعودون بَعْد ذَلِك لِالْتقاط مِن نَسَوه! أَظُنّك شاهدْتِ أفْلامًا سِينمائيَّة تَصِف مَا يَحدُث عِنْد كَارِثة طَبيعِية هَائِلة تُنْذِر بِنهاية العالم، سيعينك هذَا على تَخيُّل حالنَا فِي تِلْك اللَّحْظة. حَمْل زَوْج أُخْتِي اِبنتِي علَا، وألْقى بِي مع كُرْسِيّ المتحرِّك فِي سيَّارَته. 

مسنة فلسطينية داخل مستشفى شهداء الأقصى. 25 أغسطس 2024 (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
مسنة فلسطينية داخل مستشفى شهداء الأقصى. 25 أغسطس 2024 (أشرف أبو عمرة/الأناضول)

البنْزين اَلقلِيل اَلذِي بَقِي فِيهَا، ثُمَّ قَرَار زَوْج أُخْتِي بِالْخروج فوْرًا مهما حدث قَبْل أن يُغْلقوا شَارِع صَلَاح الدِّين، كَانَا سبب نَجاتِنا. تَركنَا أَهلِي، وكانتْ كُلُّ حَركَة مِن حَرَكات السَّيَّارة، بل كُلُّ سَكنِة مِن سُكناتهَا، تُولِّد فِي جَسدِي آلامًا لَا تُوصَف. مُصرَّة على الوصْف؟ تَخيلِي أنَّ جَسدَك كُلَّه سَكاكِين، وَفِي كُلِّ لَحظَة تَنغَرِز السَّكاكين أَكثَر فِي لَحمِك وأعْصابك وعظامك. اَلوُجهة: جَنُوب وَادِي غَزَّة، هَذِه أَوامِر الإسْرائيليِّين. يطْردوننَا، يَأتُون مِن اَلْهَواء لِيجهزوا على الجرْحى وَمِن نجَا مِن المجازر التِي اِرْتكبوهَا مِن قَبْل، ثُمَّ يلْحقون بِنَا إِلى مَكَان نُزوحِنَا اَلجدِيد. قَرَار واعٍ بِالْإبادة، كأنَّهم تعمَّدوا أَلَّا يبْقوْا مِنَّا أحدًا. وصلْنَا أخيرًا إِلى النُّصيْرات، وبعْد عشر دَقائِق مِن وُصولِنَا أغْلقوا شَارِع صَلَاح الدِّين. مِن بَقِي فِي اَلجِهة اَلأُخرى، هُنَاك شَمَال الوادي، صار الآن حبيسًا. 
فِي مُخيَّم النُّصيْرات دار مَهجُورة كان يَسكُنها سَيدِي، أيْ جِدِّيٍّ وَالِد أَبِي. بَيْت خَرب، لَيْس فِيه حَمَّام ولَا ماء، جُروحي مَفتُوحة، علَا تَبكِي مِن الوجع، ومحمَّد يَقُول: هذَا بَيْت شَياطِين، أنَا مِشّ مَبسُوط. عُمرُه خَمْس سَنَوات وَصَار قادرًا على القوْل وَهُو يُحدِّق بِعيْنَيْنِ جامدتيْنِ: أنَا مِشّ مَبسُوط. اِتصلَت بِزوْجيِّ لِيأْتي إِليْنَا، قال لِي إِنَّه لَم يَخرُج جُثَث أَهلَه بَعْد. سيتطَلَّب الأمْر مِنْه - كمَا تَبيَّن - سَبعَة أَيَّام حَتَّى اِسْتطَاع إِخرَاج اَلجُثث وَدفنِها، مَا عدَا أُخته اَلتِي تَمزقَت أَشلَاء. ولأنَّنَا أردْنَا رُؤْيته بِشدَّة، ولأنَّه يُريد أن يُطمْئِن عليْنَا، كان يَأتِي ثُمَّ يَعُود إِلى مَكَان المجْزرة، لَن يَهدَأ لَه بال مَا لَم يُدفَن أَفرَاد عائلَته. بُعْدُها اِقترَح عليْنَا أن نَنتَقِل إِلى بَيْت عَمّتِه. لَن يَكُون اَلْحال أَفضَل، لَكِن مَا مِن خِيَار. هُنَاك سننْحَشرُ فِي بَيْتٍ وَاحِد مع العشرات، ومجدّدًا لَن يَكُون لَديْنَا ماء. كَيْف تسْتطيعين الاسْتحْمام وَقَضاء حَاجَتِك دُون ماءٍ؟ كَيْف ستعْتنين بِجراحك؟ ولم أكن وَحدِي، اَلجمِيع فِي مِثْل حَالِي، وَلكُل وَاحِدٍ مَصائِبه ومشْكلاته. فِي هذَا الوقْتِ، كَانَت العمليَّة البرِّيَّة بَدأَت فِي جَبَاليَا. أتذكرين أُخْتَ زَوجِي التِي حدَّثتْك عَنهَا؟ أَرمَلة اَلشهِيد، أَفنَت عُمرَهَا فِي تَربِية اِبنهَا، أوْصلَتْه إِلى سِنِّ الرَّابعة عَشرَة، ثُمَّ قُتلَت مع بدْء العمليَّة البرِّيَّة، وَبقِي اِبنهَا مع جَدِّه فِي جَبَاليَا. اَلمهِم، ذهبْنَا هَذِه المرَّة إِلى بَيْت خَالَتِي فِي الزَّوايدة، سَبقَنِي أَهلِي إِليْهَا، وَفِي غُرفَةٍ وَاحِدةٍ أقمْنَا معًا، أَربَعة عشر شخْصًاً مِن بَينهِم أَبِي المقْعد. لَا فَرْشٌ، لَا أَغطِيةٌ، لَا كهْربَاء، لَا اِتِّصالات، ولَا إِنْترْنت، أَنَام على الأرْض وأوْجاعي معًا، وَزوجِي يَقطَع كُلَّ يَوْم مشْيًا سَاعَة فِي الذَّهَاب وَساعَةً فِي الإيَاب لِيأْتي ويطْمَئنَّ عليْنَا. أمْهلَنَا اَلجُنون شهْريْنِ هَذِه المرَّة، أَظُنّكِ صِرْتِ تَعرفِين النَّمط. بِالضَّبْط، رموْا عليْنَا منْشوراتهم. كان ذَلِك بَعْد مُنتَصَف اللَّيْل، سَأظلّ أُعيد كَلامِي: يُطاردوننَا مِن مَكَانٍ إِلى مَكَان، لَا يُريدون الإبْقاء على أحد. إِلى أَيْن سنذْهب؟ بل حَتَّى لَو عرفْنَا مقْصدنَا، كَيْف سنفْعل ذَلِك؟ اِستمَر القصْف إِلى الفجْر، والْبَيْتُ يَهتَز بِنَا، كَأنَّه لَا وُجُود لِلْغد. فِي الصَّبَاح أتى زَوجِي إِليْنَا، كان خائفًا حَتَّى الموْتِ مِن اِحتِمال أن يَكُون فقدَنَا نَحْن أيْضًا. اَلوُجهة؟ رفح. 
فِي الشَّقَّةِ خَمسُون نازحًا، أو رُبّمَا ثمانون. فِي التَّحاليل الطِّبِّيَّة المخْبريَّة، وَهِي دِراسَتي، نَهتَم بِدقَّة الأرْقام. فِي جحيم غَزَّة يَختَلِف الأمْر بَعْض الشَّيْء. وَضعُوني فِي شَقَّة لِأَني كُنْت مُصَابَة، أمّا زَوجِي فَكَان حظُّه خَيمَةً لِأَنّه لَم يَكُن مُصَابًا. حَمَّامٌ وَاحِدٌ لِخمْسِين شخْصًا، أو ثَمانِين. يُزوِّدوننَا بِبَعض المعلَّبات وَمَاء الشُّرْب اَلمُلوث، وَفِي ظُرُوف شُحِّ اَلْماء يُصْبِح الأكْل والشُّرْب مُثيرِين لِلْقلق: كَيْف سَتقضِين حاجتك؟ بِم ستنظِّفين نفْسك؟ جُعْت حَتَّى الإغْماء، عَطشَت حَتَّى الجفَاف، وكثيرون، مِن بَينهِم اِبْنِي مُحمَّد، أُصيبوا بِالْتهاب اَلكَبِد الوبائيِّ. اَلْماء مُلوَّثٌ، المكَان مُلوَّثٌ، اَلْهَواء مُلوَّثٌ، وَمِن حَولِي تَرقُد هَياكِل عَظمِيةٌ مِن بَينهِم اِبْنِي وابْنَتي. كَيْف حدث وأنْ أصْبحوا خَارجِين مِن مَجاعَةٍ لَم نَكُن نُشاهدهَا إِلَّا فِي إِفْريقيَا؟ ساعدَنَا أَهْل رفح كثيرًا، لَكِن أيّ شَيْء بِوسْعه أن يُزيل مُعاناتنَا أو يُخَففهَا؟ الألم شديدٌ، المأْساة كَبِيرَة، أَشعُر أنَّ حَديثِي عَنهَا، أنَّ تكْرار مُفردَاتٍ بِعيْنِهَا، سيبْتَذل المسْألة كُلهَا، لَكِن مَا العمل؟ مِن أَيْن آتي بِلغة جَدِيدَة؟ أتعْلمين مَا أَكثَر مَا كان يُخْجلني؟ الصُّرَاخ، صُرَاخِي، أن يَسمَع نِسَاء ورجال لَا أَعرِفهم صُرَاخِي، هذا آذاني إِلى أَبعَد حدّ، ولم أَستَطع التَّحَكُّم بِالْأَمْر، آلامي لَا تَهدَأ، وَجرُوحي لَا تَندَمِل. شَعرَت بِأنَّني عَارِيةٌ وَسطهم، أصْواتي اَلتِي تَخرُج مِنِّي رغْمًا عَنِّي جَعلتْنِي عَارِية وسط خمْسين شخْصًا، أو ثَمانِين. عارٌ، عارٌ كبير تُفَاقمه رائحَتي.
صمتَتْ من جديدٍ، وراحَتْ تنظرُ نحوَ نقطةٍ بعيدةٍ في الأعلى، وعلى الرغمِ منَ الأسئلةِ التي كانَتْ تغلي بِداخليْ، شعرْتُ أنَّ الصمتَ الذي تركَتْهُ كلماتُها أقوى منْ أنْ يُكسرَ، لقد كان صمتاً شخصياً جداً، إعلاناً للكرامةِ بشكلٍ ما. طافَ الدمعُ خلف أهدابِها، هضابٌ من الدموعِ غرغرَتْ وتدافعَتْ وتراكمَتْ ولكنّها عجزَتْ عن النزول، أنتِ بعدِك معي؟ سألتني وهيَ تبتسم!

اكتظت رفح بالنازحين قبل تهجيرهم مجدداً. 28 مايو 2024 (إياد البابا/ فرانس برس)
اكتظت رفح بالنازحين قبل تهجيرهم مجدداً. 28 مايو 2024 (إياد البابا/فرانس برس)

اليوْم هُو الثَّالث مِن دِيسمْبر. نظر اَلطبِيب فِي مَشفَى شُهَداء الأقْصى إِلى سَاقِي الحمْراء المتورِّمة وَقَال مُبَاشرَةً: تحْتاجين عَمَليَّةً. ثُمَّ أَردَف: لَا يُمْكننَا فعل ذَلِك، سأكْتَفي بِتعْقِيم جُروحك. - أيمْكنْني اَلحُصول على مُضادَّاتٍ حَيَويَّة؟ - لَيْس لَديْنَا. المشْفى مُمْتَلِئٌ عن آخره، مُكتَظٌ بِالنَّازحين والْجرْحى والْإنْتانات والرَّوائح. نِعْمَة، أُخْت لِزوْجيّ، قُتلَت فِي قَصْفٍ مع أوْلادهَا السَّبْعة وتركتْ رَضِيعَة. كُمّ صار عدد قَتلَى عائلتنَا؟ ثلاثةٌ وثلاثون؟ اَلماء المُلوث فعل فِعْله بِي، أُصبْتُ بِالتَّسمُّم، ولَا أَكُف عن القيَاء. والْقَصْف يَطَاول كُلّ شَيْءٍ: الشُّرْطة المدنيَّة، المشافي، المسْتوْصفات، الصلِيب الأحْمر وأطبَّاء بِلَا حُدُود، لَم تعُد لَديْنَا إِعانَاتٌ إِغاثِيَّةٌ أو خدْمَات طِبِّيةٌ، لَا يُوجَد الآن أيُّ شَكْل مِن أَشكَال العناية بِالْجرْحى والْمرْضى، بل لَا يُوجَد دَوَاء يُوقف قِيائي. قال أَحدُهم لِزوْجي، أَظُنّه أحد الأطبَّاء لَسْت مُتَأكدَةً: أَرأَيت اَلْماء اَلذِي فِي المعلَّبات؟ عُلبَة اَلفُول مثلًا؟ اِعصِروا عليْه لَيمُونةً ولتشربه. كذَا كَانَت وصفته! قال زَوجِي إِنَّه مُسْتَعِدٌ لِدَفع ثمن الدَّوَاء، أَكَّد اَلطبِيب أنَّ الدَّوَاء غَيْر مُتَوفرٍ: لَا تُعذِّبوا نَفسكم. 
حدث مَا سبق قَبْل ذَهابِنا إِلى رفح، أَعتَذر إِلَيك مِن إِغْفالي تَرتِيب الأحْداث، أنَا مُشَوّشَةٌ، وَكُل شَيْء حدث فِي وَقْتٍ قصير، كأنّ كُلَّ شَيْءٍ حدث فِي الوقْتِ نَفسِه. أُحَاوِل أن أُركِّز، أَتحَدث إِلَيك لِأَني أُريد أن يَسمَع العالم حِكايتنَا، وبقيتْ تَفاصِيل لَا تَنتَهِي لَم أَذكُرها، لَا أَتخَيل أنَّ كِتابتهَا مُمْكِنة. أظلُّ أَبكِي طِوال الوقْتِ، خَسِرنَا كُلّ شَيْء، نزحْنَا خَمْس مَرَّاتٍ فِي أَربَعة أَشهُر، أَنظُر إِلى اِبنتِي المريضة، إِلى حُروقي، إِلى جُروحي المنْتنة، إِلى سَاقِي الملْتهبة، إِليْنَا ونحْن نَتَكدَّس مِثْل أَكوَام لَحْم، وَأظَل أَبكِي وأدْعو اَللَّه أن يرْحمَني ولَا يَترُكني أعيش لِلْيوْم التَّالي، وأفكِّر فِي بَلاغَة اِبْنِي: أنَا مِشّ مَبسُوط. لَا يَزَال فِي الخامسة، أخْبرتك، لَكِن شعْره اِبْيضَّ. طِفْل بِرَاسٍ شَايِب! كَانَت نجاتُه مُعْجِزةً، الحمْد لِلَّه، طارَ مِن قُوَّة الانْفجار مِثْل وَاحِدٍ مِن أبْطاله الخارقيْنِ الَّذين يُشاهدهم فِي قَنَاة الكرْتون، ثُمَّ حطَّ على سَطْح بِناية مُجَاورَة. وَجدُوه واقفًا بِثباتٍ يُردِّد: الدُّنْيَا حمرا، الدُّنْيَا حَمرا! إِلى اليوْم يَقُول: الدُّنْيَا حمرا. 
فِي رفح، فِي مَبْنى فِيه أَكثَر مِن ثلاثمئة شَخْصٍ، فِي شَقَّةٍ فِيهَا خَمسُون أو ثمانون، بَقِينَا عَشرَة أَيَّام. كان الغلَاء فظيعًا، لَيْس مَعنَا مالٌ أو بِطاقَات بَنكِية، والْكلُّ جَائِعٌ. اِجتمَع فِي رفح ثَلاثَة أَربَاع أَهْل غَزَّة. تمشيْن فِي الشَّوارع فلَا تريْن غَيْر الجيَاع، والْمرْضى، ومبْتوري الأطْراف، وأنْصَاف أَجسَاد تَجول فِي كراسيِّهَا المتحرِّكة على غَيْر هُدىً. كَابُوسٌ، مرضٌ خُرَافِيٌ، اِختِناق عظيم بِروائحنَا، رَوائِح إِنْتانات جُروحِنَا اَلتِي اِنْضافتْ إِليْهَا رَوائِح اَلجُثث المتحلِّلة تَحْت الأنْقاض. رَائِحة الموْتِ والتَّفسُّخ فِي كُلِّ مَكَان. لَا أَظُن أنَّ هذَا الأمْر حدث فِي أيِّ مَكَانٍ فِي اَلكُرة الأرْضيَّة: أن يعيش أَنصَاف اَلْمَوتى وأنْصَاف الأحْياء معًا. صار؟ أن نرى أجْسادنَا بِأعْيننَا وَهِي تَتَحلَّل فِي الزَّمن الحقيقيِّ، صار؟ هذَا لَيْس مجازًا، حِين أُحَدّثكِ عن تَعفُّن أجْسادنَا لَا أَقصد المبالغة ولَا أَستعِين بِالْبلاغة، كُنَّا نرى حقًّا الدِّيدان وَهِي تَخرُج مِن جُروحِنَا. تِلْك الرَّائحة! اَلجُثث، الإنْتانات، النّفايات المتراكمة المخْتلطة بِاللَّحْم البشَريِّ، مزيج قَاتِلٌ. مِن مَجْزَرة العائلة نجَا طِفْلَان، رَضِيعَة عُمْرها سنةٌ ونصْف، وَولَدٌ عُمْره أَربَعة عشر عامًا، يتيمَان ترْكتهمَا أُخْتا زَوجِي، صَارَا الآن ولديْنِ لَنَا. 
لَا أَعرِف أَيّهُما أشدُّ، الألمُ اَلنفْسِيّ أم الجسَديّ، لَكنِّي لَاحظتُ أمْرًا غريبًا: فِي كثيرٍ مِن الأحْيان طغتْ آلامُ جَسدِي على آلام النَّفْس، كأنّ جُروحي المفْتوحة ساعدتْني على نِسْيَان اَلحُزن. اَلحُزن، فِي مِثْل هَذِه اَلجحِيم، ترفٌ لَا يليق بِنَا. ثُمَّ أَجدنِي لَا أَنَام لِأرْبَعة أَيَّام، صُوَر المجْزرة لَا تُفارقني، أرى أَفرَاد العائلة مخْنوقين تَحْت الرُّكَام، أراهم بِأجْسَادٍ سَلِيمَة. كذَا يَفعَل صَارُوخ الشَّفْط، شَيْء لَه عَلاقَةٌ بِضَغط اَلْهَواء، تَتَمزَّق الأحْشاء فِي الدَّاخل، تَتَفتَّت، لَكِن مِن الخارج، يظلُّ الجسد سليمًا. أراهم جميعًا، هُنَا فِي رَأسِي، الأطْفال والشَّباب والْمسنِّين، كَانُوا طيِّبين جميلين مُحبِّين لِلْحيَاة على الرَّغْم مِن قَسوتِها، أراهم وتلْك الرَّائحة لَا تُفَارِق أَنفِي. صدِّقيني، لَمُّ أقل شيْئًا، كُلُّ اَلذِي أخْبرتك بِه ولم أَقُل شيْئًا بَعْد، تُوجَد تَفاصِيل كَثِيرَة، تَفاصِيل بَشعَة، تَفاصِيل قَاتِلة، لَكنِّي لَا أَقوَى على سرْدهَا. هل العدْل مَوجُودٌ؟ لَا أَظُن، لَكنَّه إِيماني بِاللَّه، أَنتَظر العدْل الذِي فِي السَّمَاء. كُلُّ اَلذِي أُفكِّر فِيه الآن هُو أن أَحمِي أوْلادي. حَياتِي الماضية سأسمِّيهَا حَياتِي اَلأُولى، اِسْتغْرقتْ مِنِّي أَربعِين عامًا لِأؤسّسهَا، والْآن عليّ أن أَبدَأ مِن الصِّفْر، مِن تَحْت الصِّفْر، لِأؤسِّس حَياتِي الثَّانية اَلتِي أَجهَل كُلّ شَيْء عَنهَا. أَعرِف فقط أَنَّه عَلِيّ أنَّ أستمَرَّ مِن أَجْل أوْلادي.

 

كيف نكتب الإبادة؟ عن هدم العالم وأشباحه

فراس الشيخ رضوان... الذي رأى ما لا يُرى (1)

الطبيب خالد أبو سمرة... مناوبتي التي لم تنته (2)

المساهمون