نزيف متعدد الأشكال

11 يوليو 2022
معلمون وتلاميذ في الجزائر (بلال بن سالم/ Getty)
+ الخط -

لم تكن أوضاع الدول العربية متماثلة في غضون العقد الأخير، خصوصاً لجهة ما شهدته من أحداث وكوارث. بعضها مرت عليه تلك السنوات، وعاش فورة في نظم ومؤسسات التعليم ووفرة في مشاريع التطوير، وبالتالي عبرها بأقل قدر من الخسائر والأضرار. وبعضها الآخر بأكبر قدر منها، وهو ما يتناول البنية المجتمعية والموارد البشرية والمادية اللازمة للعملية التعلمية – التعليمية. 
على الصعيد الثاني تحولت العديد من الدول العربية التي شهدت حروباً وتفككاً واضطرابات أهلية إلى مناطق طرد للكفاءات البشرية، تحت وطأة منوعات الانهيار والتخلخل الذي عانته، والذي دفع بأعداد من أساتذتها ومعلميها إلى مغادرة بلادهم، والتوجه نحو دول الجذب في هجرات شرعية وغير شرعية. والبعض القليل توجه نحو دول عربية حافظت على نسبة استقرار عالية. ينسحب مثل هذا الوضع على أساتذة الجامعات والثانويات ومعلمي ومعلمات المراحل الأساسية والروضات. وبالطبع كانت أبواب الهجرة مفتوحة أمام المتخصصين في تدريس المواد العلمية الحديثة في المعاهد والجامعات الأوروبية والأميركية والكندية والعربية، مقابل ندرة العثور على عمل من جانب سواهم، الذين اضطروا إلى العمل بما تيسر من مهن، لا تتطلب كفاءات عالية، سواء أكانت علمية أم مهنية. فقد كان جلّ اهتمامهم الخروج من الجحيم مع عائلاتهم نحو ملاذات آمنة. 
وما أصاب المعلمين والمعلمات والأساتذة أصاب أيضاً الأطباء والمهندسين والخبراء وكل من يوصفون بأنهم من أصحاب المهن الرفيعة، ما قاد إلى مشكلات تتجاوز المؤسسات التعليمية على مستوياتها، إلى المجتمع بأسره، ولا سيما القطاع الصحي والعلمي عموماً. وهنا لعب الجانب الأمني دوره الوازن في دفع أعداد كبرى إلى المغادرة، فقد تعرض الألوف من هؤلاء لعمليات اغتيال أو زجت بهم السلطات والقوى الأهلية في السجون وعانوا التضييق عليهم، لأسباب تتعلق بمواقفهم السياسية. 

موقف
التحديثات الحية

كما أن الجانب الاقتصادي والمعيشي ساهم بدوره في دفع الأمور في هذا المنحى، بعد أن باتت رواتب هؤلاء لا تستطيع تأمين الحد الأدنى اللازم للحياة الكريمة. وهكذا فقدت المنطقة كفاءات هي بأمس الحاجة إليها للنهوض من عثراتها المتنوعة. أكثر من ذلك آثر عدد كبير من الطلبة – الخريجين العرب البقاء في الدول الأجنبية التي كانوا يدرسون فيها، أو تخرجوا من جامعاتها. بعض هؤلاء تعلموا لأنهم حصلوا على منح من دولهم، أو على نفقاتهم من ذويهم. وهكذا ارتفعت نسبة هؤلاء الذين ظلوا في عالم الاغتراب إلى ما فوق نسبة الـ50 في المائة التي لحظتها الإحصاءات السابقة. ما يعني أن عملية تمويل تتم من جانب الدول والشعوب العربية، تتجه إلى الدول الأكثر تقدماً من خلال هذه العملية المعكوسة، فبدلاً من أن تتكلف المجتمعات المتقدمة بتأمين حاجاتها من الكفاءات العالية، تحصل عليها بعد تأهيلها على نفقة مجتمعاتنا، وهي كفاءات بالطبع ستساهم في عملية دفعها نحو المزيد من التقدم، ما يضاعف الهوة الحضارية والتعلمية والعلمية القائمة. هذه القاعدة انعكست مع الحرب على أوكرانيا، فقد اضطر الخريجون والطلاب العرب إلى مغادرتها على دوي المدافع وأزيز الصواريخ مع اللاجئين من أهلها. 
المقصود القول إن ما شهدته المنطقة العربية على صعيد النزف المضاعف الذي عانته، يحتم النظر إليه بتمعن، لتحديد العوامل التي لعبت دورها في بلوغ هذا المبلغ التدميري الذي أصاب دولاً وشعوباً، خسرت زهرة شبابها، التي باتت مساهِمة رئيسية في نهضة دول ومجتمعات متقدمة أصلاً، بينما بلادها بأمس الحاجة إليها للقيام بالحد الأدنى لاستقامة أوضاعها. 
(باحث وأكاديمي)

المساهمون