تنشط حركة الهجرة السرية من مختلف مناطق سورية. والحال واحدة رغم تعدد القوى العسكرية المسيطرة على أراضي البلاد، لأن غالبية السوريين المقيمين باتوا غير قادرين على احتمال الضغوط المعيشية والمخاطر الأمنية، وزجّ الشباب في الصراعات العسكرية، وسط غياب أي أمل بتوافر مستقبل يلبي طموحاتهم في بلاد تتجه إلى الهاوية يوماً بعد يوم.
ينشغل يامن ي. (40 عاماً) الذي يحمل إجازة جامعية ورب أسرة مؤلفة من 5 أفراد في البحث عن سبيل يوصله إلى أوروبا بأقل مبلغ وبأكبر درجة من الأمان. يقول لـ"العربي الجديد": "بعد انتشار فيروس كورونا وما نتج عنه من تشديد في القيود على الرحلات الخارجية، ارتفعت كلفة السفر إلى أوروبا بالطرق السرية في شكل كبير، إذ كانت تتراوح بين 4 و6 آلاف دولار عام 2018، فيما أصبحت اليوم بين 9 آلاف و15 ألف دولار، بحسب تقديرات نسبة المخاطر التي قد يواجها الشخص على الطريق. والأكيد أن لا ضمانات للوصول، فالشخص الراغب بالسفر يغامر بحياته التي قد يفقدها في أي مرحلة من مراحل السفر".
يضيف: "في مناطق سيطرة النظام تتعدد أشكال الهجرة، بدءاً من الذهاب إلى شمال سورية ثم إلى تركيا، إلى قصد لبنان ثم تركيا عبر أوراق مزورة ومنها إلى أوروبا عن طريق الجو أو البحر أو البر. وهناك مسار ينطلق من العراق إلى تركيا، وآخر من إيران أو روسيا إلى شرق أوروبا، ثم إحدى دول الاتحاد الأوروبي. كما يذهب البعض إلى البرازيل ومنها إلى غويانا الفرنسية المحاذية لها، ويخرج آخرون من المستنقع بطرق سرية بهدف العمل، خصوصاً العاملين في القطاع الطبي الذين توجهوا بكثرة أخيراً إلى الصومال وليبيا. وقد ذهب بعضهم إلى السودان".
ويلفت إلى أن "قسماً من السوريين لا يتوجه إلى الشمال بسبب حساسيات طائفية أو سياسية، علماً أن كُثراً وقعوا في يد فصائل تسيطر على الشمال، لكن جميع السوريين يتفقون، بغض النظر عن الاصطفاف السياسي، على أن بلادهم لم تعد تصلح للعيش وأن لا أفق للمستقبل فيها، لذا ينحصر همّهم في إنقاذ أبنائهم وإخراجهم منها بأي طريقة، حتى إن هناك شباناً يغامرون بعمرهم لأنهم يعتبرون أن الحياة في سورية تعادل الموت في ظل غياب الفرص التي قد يوفرها السفر".
دروب "الفرص"
ولا تقل نسب الراغبين في السفر في إدلب. يتحدث رامي السيد المقيم في مخيم للنازحين بريف إدلب الشمالي على الحدود مع تركيا لـ"العربي الجديد" عن أن "الناس لم يعودوا يستطيعون تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية، كما لا تتوافر القدرة على إكمال الطلاب تعليمهم، والوضع الأمني متردٍ في مناطق سيطرة المعارضة والنظام الذي يطارد الشباب بشبح الخدمة العسكرية، والملاحقات الأمنية" .
ويتابع: "هناك جانب مهم في مغريات السفر يتمثل في النماذج التي ينقلها شبان وصلوا إلى بلاد لجوء أتاحت لهم كمّاً كبيراً من الفرص المهمة لاستكمال مسارات حياتهم، في وقت يواجه المواطنون المقيمون الحرمان من العمل والتعبير عن الذات والتهديدات الأمنية".
ويشير إلى أن "كلفة السفر تختلف بحسب الوجهة، فانتقال الشخص من دمشق إلى الشمال الخاضع لسيطرة المعارضة ومنه إلى تركيا يكلف بين 1500 و2500 دولار، وصولاً إلى 4 آلاف دولار أحياناً. وتخضع الأسعار لحسابات مخاطر الطرق والوضع الأمني للشخص المعني. ويصل إلى مناطق إدلب شبان من دمشق وريفها ودرعا والقنيطرة والسويداء وحمص يشعرون بعدم وجود أمل بالحياة في سورية، ويضاف إليهم آخرون من مناطق الشمال استطاعوا تأمين كلفة السفر عبر الاستدانة، أو بيع ممتلكات لمحاولة الخروج".
ويوضح السيد أن "العبور إلى تركيا محفوف بالمخاطر، إذ قد يتعرض الشخص للاعتقال والاستجواب، خصوصاً في مناطق عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون الخاضعة لسيطرة فصائل عسكرية تلاحق المهربين، وكذلك لإطلاق نار على الجدار قد يودي بحياته. ويحاول المهربون غالباً إغراء الأشخاص لإقناعهم بالسفر الذي يجعلهم يواجهون مخاطر كثيرة منها عمليات النصب والقتل والغرق في البحر، علماً أن حرس الحدود اليوناني لا يتردد نفسه في إغراق القوارب. وينتشر في الطرق البرية أيضاً مرتزقة من دول المنطقة يوقفون المهاجرين ويسلبونهم حتى ثيابهم ويعتدون عليهم، ثم يجبرونهم على العودة شبه عراة إلى تركيا".
يضيف: "خاض أصدقاء ومعارف كُثر لي تجربة السفر، وحالف الحظ بعضهم في الوصول إلى أوروبا عبر طرق تعرضوا فيها إلى أشكال مختلفة من المخاطر والتعنيف والضرب المبرح، وشاهدوا استهداف قوات حرس الحدود المهربين بالرصاص الحي، وتكسير أيديهم وأرجلهم كي يتوقفوا عن نقل أشخاص جدد. لكن رغم كل هذه المخاطر والصعوبات لا يزال أشخاص يحاولون العبور، وغالبيتهم طلاب جامعيون لم يعودوا يملكون فرصة لإكمال دراستهم وتأمين معيشتهم وحتى مواجهة المخاطر الأمنية، فأصبح السفر هو المرساة الوحيدة لنجاتهم".
دوافع على امتداد الوطن
إلى ذلك، لا يبدو أن دوافع هجرة السوريين تختلف بحسب المناطق. يقول سلام حسن لـ"العربي الجديد": "الأسباب الأولى للهجرة ترتبط بتردي الأوضاع الاقتصادية والتشديد الأمني وتطبيق التجنيد الإجباري. ومع شبه انعدام فرص السفر بالطرق الاعتيادية إلا عبر ما يسمى لمّ شمل العائلات في دول أوروبا، يتجه الناس إلى الهجرة السرية التي تكون محطتها الأولى غالباً تركيا أو إقليم كردستان العراق، تمهيداً للانتقال إلى أوروبا".
ويروي أن "كلفة السفر السرّية تتراوح بين 1500 و4000 دولار عبر ثلاث طرق، أولها اجتياز مدن وبلدات محاذية للحدود مع تركيا، مثل القامشلي والقحطانية وجوادية وعامودا ودرباسية، حيث تسهّل القوى المسيطرة على الأرض عبور شبكات التهريب المرتبط بعضها أيضاً بحرس الحدود التركي. لكن هذه الطرق محفوفة بمخاطر قد تصل إلى حدّ القتل الذي شمل أخيراً محامياً يدعى سالار عثمان من قرية عابري شرق القامشلي اعتقله حرس الحدود التركي وعذبه ما جعله يصاب بفشل كلوي. ورمى الحرس جثة عثمان في منطقة عامودا".
ويلفت حسن إلى أن "المنطقة الخاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد) من الحدود السورية - العراقية والممتدة على مسافة 45 كيلومتراً، تشهد نشاطات كثيفة لشبكات تهريب يديرها سكان قرى من الطرفين، وتعتبر أقل خطورة من الحدود التركية. أما منطقة التهريب الثالثة فتقع جنوب شرقي إقليم الجزيرة الذي تسيطر عليه مليشيات عراقية والحشد الشعبي، في حين توجد شبكات تهريب عشائرية وقوات الصناديد التابعة لقسد. وهذه المنطقة خط لتهريب الأشخاص والمواشي والسيارات بين سورية والعراق، وطرقها محفوفة بالمخاطر، وتشهد اعتقال الجانب العراقي متسللين كُثراً".
... ودير الزور
وفيما يتشارك أهالي محافظة دير الزور التي تتقاسم "قسد" ومليشيات إيرانية وقوات النظام السيطرة عليها الأسباب التي تدفع إلى الهجرة ومحاولة النجاة من الوضع الكارثي على كل المستويات، يقول عضو مركز الباغوز الإعلامي الناشط أبو علي المرسومي لـ"العربي الجديد": "تشهد دير الزور موجة هجرة لا سابق لها تتأثر بتدهور الوضع الاقتصادي وانعدام الأمن إذ تعاني مناطق سيطرة النظام من تسلط مليشيات إيرانية وعراقية على الأهالي وأرزاقهم، في حين تكثر عمليات الاغتيال المتكررة بلا رادع أمني في مناطق قسد. والسبب المشترك بين الطرفين هو الخوف من التجنيد الإجباري، وزجّ الشباب في الصراع العسكري".
يضيف: "لا يعرف الناس إلى أين يهربون من واقعهم المأساوي. ينزح بعض أهالي دير الزور إلى مناطق الرقة والحسكة بحثاً عن لقمة العيش، ويتوجه آخرون إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، علماً أن كلفة السفر مرتفعة جداً بالنسبة إلى وضعهم الاقتصادي، وتتراوح بين 8 آلاف و15 ألف دولار للهجرة إلى أوروبا، وبين ألفي دولار و3 آلاف دولار للتوجه إلى تركيا. ومن أجل تأمين هذه المبالغ الضخمة يلجأ البعض إلى رهن الأملاك أو بيع أراضٍ وعقارات". يتابع: "عبور الطريق من ريف دير الزور شرق الحدود إلى تركيا يستغرق بين 3 أيام وأسبوع، في حين يتحكم المهربون بفترة الانتقال من تركيا إلى أوروبا والتي قد تستغرق بين أسبوعين وشهر في رحلة تقطع غالبية مسافتها سيراً على الأقدام. وإذا كانت هذه الرحلة أقل من 15 يوماً فتتم باستخدام القطارات والسيارات. وتنسق مجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي رحلات السفر السرية لمن لا يملكون أموالاً كافية، إذ قد يحتاج شخص إلى مبلغ 3 آلاف دولار مع مصروف إضافي للوصول إلى ألمانيا مثلاً".