تشير كلّ المعطيات السياسية والوقائع الميدانية إلى أنّ الدنمارك باتت "غير آمنة" للاجئين السوريين، في حين يحاول الأوروبيون تدارك الأسوأ لأنّ المغادرين باشروا الانتقال إلى دولهم.
تواجه السلطات الدنماركية منذ فترة ضغوطاً ينفذها برلمانيون وسياسيون أوروبيون عليها بسبب ممارساتها المتشددة مع اللاجئين والمهاجرين، خصوصاً السوريين. وبعدما استندت في العامين الأخيرين إلى تقارير صنفت مناطق في العاصمة السورية دمشق وريفها بأنّها "آمنة" من أجل تجميد تجديد إقامات مئات من طالبي اللجوء، تتحوّل الدنمارك نفسها إلى بلد "غير آمن للاجئين" بحسب قرار اتخذته محكمة ألمانية في برلين أخيراً لمنع إبعاد طالبي لجوء إليها. ويتزامن ذلك مع تزايد التقارير عن رحيل مزيد من السوريين من الدنمارك إلى بلدان أخرى.
في الفترة الأخيرة، استجوب نحو 50 نائباً في البرلمان الأوروبي وزير الهجرة الدنماركي ماتياس تيسافي، حول السياسة المتشددة لبلده مع اللاجئين، علماً أن لجنة الحقوق المدنية في البرلمان الأوروبي كانت دعت قبل أكثر من عام تيسفاي إلى المثول أمامها لشرح سياسات بلاده ونتائجها على اللاجئين.
وشهد الاستجواب محاولة بعض أحزاب اليسار الأوروبي الحصول على شرح تفصيلي عن خطط كوبنهاغن الخاصة ببناء معسكرات لاستقبال لاجئين خارج القارة الأوروبية. وتحوّلت قضية سحب وتجميد لجوء لاجئين سوريين من دمشق وريفها إلى نقطة ساخنة في السجال الأوروبي، خصوصاً أن الدنمارك تعتبر الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تبنت سياسات تجميد لجوء السوريين.
ورغم إعفاء الدنمارك من بعض الالتزامات القانونية بشأن ما يمكن أن تقرره لجنة حقوق الإنسان التي كان الدنماركيون تحفّظوا على قراراتها في استفتاء شعبي أجري قبل أكثر من 20 سنة، لكن كوبنهاغن لا يمكن أن تتجنب النقاشات ذات الأبعاد الأخلاقية حتى إذا اعتبرت نفسها خارج بعض أجزاء التعاون الأوروبي الخاص باللجوء.
أفكار من أقصى اليمين؟
وجّه برلمانيون أوروبيون انتقادات لاذعة إلى تيسفاي وسياسة بلاده التي يرى بعضهم أنّها "لا ترقى إلى شيء من الديمقراطية الاجتماعية، عبر إجبار الناس على العودة إلى أوطانهم". وسأل النائب المالطي سايروس إنغرير: "إلى أين سيذهب السوريون في وقت يظهر جلياً أنّ الدنمارك تحاول جعلهم في طيّ النسيان كي يتوجهوا إلى دول أوروبية أخرى، فهل ما يجري هو إظهار أنّهم غير مرحب بهم في الدنمارك؟".
أيضاً، خاطبت البرلمانية الأوروبية عن الكتلة الليبرالية الهولندية، صوفيا إن فيلد، تيسفاي: "كيف تنام ليلاً أيها الوزير (تيسفاي). كيف يجب أن يندمج الناس ويستثمروا حياتهم في الدنمارك إذا تعرضوا لخطر الطرد في اليوم التالي. أليس حقيقة أنّ هذه الأفكار ليست اجتماعية وديمقراطية ووطنية أيضاً، بل تأتي من أقصى اليمين؟".
واللافت أنّ اليمين المتطرف في فرنسا والنمسا يبدي اعجابه بسياسات "يسار الوسط" في الدنمارك، وهو ما أكدته زعيمة الجبهة الوطنية (التجمع) في باريس، مارين لوبين، أخيراً.
"انحدار أخلاقي"
ولم تقتصر أسئلة البرلمانيين الأوروبيين على مسائل محددة تتعلق بمحاولات الدنمارك جرّ سياسات اللجوء الأوروبي نحو اليمين المتطرف، إذ اعتبر عضو كتلة "الخضر" تينيكي سترايك أن محاولة إقامة معسكرات استقبال للاجئين خارج القارة الأوروبية بمثابة "انحدار أخلاقي"، بينما لم يهتم عضو كتلة الأحزاب الشعبية المحافظة في أوروبا، لين دويونت، سوى بمحاولة الحصول على جواب من تيسفاي عن الدول التي تتفاوض معها الدنمارك خارج أوروبا لإقامة هذه المعسكرات.
مشكلة متنقلة
وعلى ضوء تزايد الانتقادات الموجّهة إليها، تحاول الدنمارك أن تبرر تشددها باعتباره "مكافحة لعصابات تهريب البشر". لكن سياستها تثير قلقاً أوروبياً واسعاً، خصوصاً مع تزايد أعداد السوريين الذين يغادرونها إلى دول القارة العجوز الأخرى.
وفيما يزداد تحويل الدنمارك مئات من اللاجئين السوريين إلى مقيمين غير شرعيين في أراضيها، وتعمّد إسكان بعضهم في معسكرات ترحيل، يختار المزيد منهم التوجه إلى ألمانيا وهولندا وبلجيكا.
ومنذ عام 2020 بدأت دائرة الهجرة ومجلس اللجوء في الدنمارك المكلفة النظر في طلبات اللجوء تطبيق سياسة وقف تمديد رخص إقامة اللاجئين السوريين، ما أثرّ على عشرات منهم بينهم طلاب كانوا يتابعون تحصيلهم العلمي وعمال تحوّلوا إلى أشخاص مجرّدين من حقوق مواصلة حياتهم الطبيعية، ولم يبقَ أمامهم إلا خيارات العودة الرحيل وطلب اللجوء من الصفر مجدداً في أوروبا.
ومع تدفق مئات منهم إلى أنحاء دول الاتحاد الأوروبي انتقلت مشكلة اللجوء من الدنمارك إلى دول أخرى، بحسب ما يكرره المنتقدون الأوروبيون لسياسة كوبنهاغن التي تجمّد بحسب قولهم العمل باتفاق دبلن الذي يقضي بترحيل اللاجئ إلى بلد اللجوء الأول، أي إلى الدنمارك، علماً أنّ أسراً سورية رفعت أمام محاكم أوروبية دعاوى لتصنيف الدنمارك "غير آمنة للاجئين" تمهيداً لمنحها حق اللجوء مجدداً في أراضي القارة العجوز.
وقد أفاد تقرير استقصائي أصدرته منظمة "لايتهاوس" بأنّ "سوريين قليلين غادروا الدنمارك بعدما ألغيت بطاقات إقاماتهم"، في حين أورد تقرير أكثر شمولاً نشرته مجلة "دير شبيغل" الألمانية في 11 يناير/ كانون الثاني الماضي أنّ "حوالى 421 سورياً غادروا الدنمارك إلى ألمانيا وهولندا وبلجيكا والسويد حيث حصل بعضهم على لجوء، في حين ينتظر آخرون حسم محاكم قضاياهم".
ورغم أنّ الدنمارك لم تسحب فعلياً إلّا إقامات 126 لاجئاً سورياً، لكنها وضعت حوالى 800 على قوائم "إعادة النظر" لتقييم الإقامات الممنوحة إليهم، ما دفع بأسر كثيرة تخاف على مستقبل أطفالها من إعادتهم إلى سورية نفسها، أو تحويلهم على الأقل إلى مقيمين سرّيين، إلى الرحيل وبدء طلب جديد للحصول على حماية ولجوء.
لن تكون كل النهايات سعيدة
على الصعيد السياسي، يشعر اليمينيون المتشددون في الدنمارك، وعلى رأسهم أعضاء حزب الشعب، بسعادة باعتبار أن سياسات اللجوء المطبقة حالياً نتجت من ضغوط يمارسونها منذ عام 2016، قبل أن تتحوّل حالياً إلى جزء من عمل حكومة الحزب الاجتماعي الديمقراطي (يسار الوسط) الذي أصبح يتماهى في شكل واضح مع اليمين، وفقاً للانتقادات التي يوجهها سياسيون حتى من أحزاب يسار الوسط نفسها في أوروبا، بحسب ما أظهره استجواب تيسفاي أمام البرلمان الأوروبي.
ورغم أن مئات من اللاجئين السوريين غادروا الدنمارك لمحاولة نيل لجوء جديد، لن تكون النهايات سعيدة بالنسبة إلى جميعهم في دول عدة، وبينها ألمانيا التي رفض بعض حكام ولاياتها، بحسب تقرير مجلة "دير شبيغل"، استقبال سوريين قادمين من الدنمارك، وأصرّوا على أنّ اتفاق دبلن يسري على الدنمارك.
في غضون ذلك، تحاول منظمات حقوقية أوروبية التحذير من ترحيل سوريين إلى دمشق، بالاعتماد على تقارير بينها لمنظمة العفو الدولية تقول إنّ "النظام السوري يعتبر اللاجئين العائدين خونة".
وقد وثقت المنظمة تعرض 66 من اللاجئين العائدين إلى سورية بينهم 13 قاصراً لانتهاكات جسيمة، ومقتل 5 منهم تحت التعذيب واختفاء 17، أحدهم شاب كان معتقلاً في سجون النظام قبل هربه وتقديمه طلب لجوء، واستصدر جواز سفر من السفارة السورية في برلين العام الماضي، ثم بعث رسالة تفيد بأنه وصل إلى مطار دمشق، وانقطعت أخباره بالكامل.
وتحاول دائرة الهجرة الدنماركية مقايضة الأشخاص الذين حوّلوا مراكز الخروج أو الترحيل إلى ما تسميه "عودة طوعية إلى دمشق في مقابل الحصول على مبالغ مالية لتأسيس حياة في الوطن الأصلي". ورغم قلة المتجاوبين، فإنّ هذه السياسة التي رصدتها منظمات حقوقية تعد أحد أهم أسباب اندفاع المئات للخروج من الدنمارك قبل أن يصل دورهم إلى قوائم المقيمين في هذه المعسكرات.