يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.
(15 نوفمبر)
كنتُ ألبسُ قميصي الزّهري اللون، وأرفع كتفي في حيرة، وأنا أقف في الممرّ الداخلي لبيت الصحافة الذي تزيّن الأشجار والأزهار جهته الشرقية. أخذتُ أتأمّل الصورة التي التقطها لي بلال، ربما في الأسبوع الرابع للحرب، قبل أيام من دخول الجيش منطقة الرمال، وتعذّر وصولنا بعد ذلك إلى بيت الصحافة. كان أحمد يقف خلف بلال الذي أصرّ على أن أعيد الحركة نفسها التي قُمت بها حين سألني شيئاً عن الحرب، وقلت: لا أعرف. ... كانت الحركة مرتبكةَ ومركّبة. وحاولتُ أكثر من مرّة أن أقوم بها كما كانت، إلا أنني فشلت كما قال بلال. تظلّ الأشياء بعفويتها وبالطريقة الأولى التي ظهرت فيها. أنظر إلى الصورة. الباب خلفي والساحة الواسعة الأمامية يميني، وصفّ الأشجار والأزهار يساري، وأمامي مباشرة بلال الذي كان يلتقط الصورة بهاتفه النقّال يقف على درجات الباب الداخلي للبناية، فيما أحمد يبتسم من الخلف، وهو يواصل عمله بالعناية ببعض الأشياء. الآن، لا أعرف أين بلال. في اليومين الأخيرين، حاولتُ الاتصال به أكثر من مرّة، ولكن بلا فائدة، لأن الشبكة "خارج الخدمة" معظم الوقت. أعرف من آخر مرّة تواصلنا أنه يبيت عند أبو الناجي في البلدة القديمة. ولكنّ كلّ يوم في الحرب سنة جديدة من عمرنا.
أنظرُ إلى الصورة أبحث عن شيء لا أعرُفه. أدقّق في عيني داخل الصورة، كأنني أحاول أن أرى انعكاس بلال وأحمد فيها. أحاول جهدي تكبير الصورة من دون فائدة.
ما زلتُ أرتدي القميص الزهري ذاته، القميص الذي وجدته أول يوم الحرب في الخزانة متروكاً مهملاً، لم ألبسه منذ سنوات. صار رفيقي الأوحد ربما خلال أربعين يوماً. كنتُ قد حضرت إلى غزّة بالبدلة الزرقاء المقلمة بعد عصر الخميس. وبقيتُ ألبسها، باستثناء يوم ذهابي إلى البحر، ارتديتُ الشورت والبلوزة اللتيْن استعرتُهما من إسماعيل زوج أختي. وكان هذا في أول يوم في الحرب، حين اندلعت نيرانها عند السادسة والنصف صباحاً، ونحن نلهو بالماء. حين عدتُ إلى المنزل، لم يكن ما يمكن أن ألبسه إلا البدلة. كنت قد أحضرتُ بنطال جينز وبلوزة زرقاء تصلح فقط للبس في المنزل فقط. ووضعتُها في الحقيبة الصغيرة التي أحملها، وقلتُ لهناء ثلاثة أيام فقط. وأقصد أن رحلتي إلى غزّة ستكون ثلاثة أيام وأعود كما في كلّ مرّة. حين عدتُ من البحر إلى البيت في صبيحة اليوم الأول للحرب، علّقت البدلة والقميص الأبيض، وقلت ألبسهما حين أخرج من غزّة، لكنني في هذه الأيام، التي اعتقدتُ أنها مجرّد أيام قليلة، سألبس البنطال وشيئا آخر. بحثتُ في الخزانة، والتقطت القميص الزهري المتروك جانباً، ووجدت سروالاً قصيراً يصل إلى حد الركبة، كان فيما مضى بنطال جينز، قصصْتُه ليصبح أكثر سهولة في اللبس، وصار ما يشبه "الشورت". حين مسكته بين يديّ، كنت أعتقد، من باب الجزم، أنه "الشورت" نفسه الذي كنت أشير إليه في روايتي "حصرم الجنة"، رغم أنّ الرواية عن فترة الطفولة. في الحقيقة، حين قصصْتُه ربما قبل سنوات طويلة اندمغت في منطقة الحنين في الذاكرة صورة الشورت الذي كنت ألبسُه في طفولتي حين أذهب إلى البحر. والآن تمتزج الذكرياتُ مع الظنّ والواقع والمتخيّل، وأنا أعيد ترتيب أيامي المقبلة. ... الآن، ألبس القميص نفسَه الذي ألبسه دائماً. أستبدله في بعض الأيام بالبلوزة الزرقاء التي صرت ألبسها في الشارع أيضاً وليس فقط داخل المنزل، ففي الحرب لا تعود الكثير من التفاصيل مهمّة، فأنت تلبس أي شيء يمكن له أن يسترك. ينام ناس كثيرون بكامل ملابسهم لخشيتهم من أن يضطرّوا للخروج فجأة من البيت، أو حتى يكون لبسها كاملاً لحظة الموت. تضع النسوة لباس الصلاة بجوارهن حتى يتمكّن من لبسه بسرعة وقت المصيبة. وبدرجات متفاوتة، كلنا يقوم بالشيء نفسه. نظل نلبس الملابس نفسها، لأن الليل يشبه النهار من حيث الخطورة، فقد تضطرّ للركض فجأة، تبحث عن آخر ما تبقى من أنفاسك، قبل أن يقبضها ملك الموت. صحيحٌ أن الليل مؤلم ومربكٌ، لأنك فيه لا ترى شيئاً، وتسمع وقع خطوات الموت، من دون أن تعرف أين يخطو. وفي النهاية، يظلّ خطر الموت قائماً في كل الحالات.
في الحرب لا تعود كثير من التفاصيل مهمّة، فأنت تلبس أي شيء يمكن له أن يسترك. ينام كثيرون بكامل ملابسهم لخشيتهم من أن يضطرّوا للخروج فجأة من البيت، أو حتى يكون لبسها كاملاً لحظة الموت
الآن، أقول مرّة أخرى لبلال ولأحمد: لا أعرف. أنا لا أعرف شيئاً، ولا أستطيع أن أفهم شيئاً. .. أعرف أننا ننتظر المجهول، وأعرف أن غودو لن يصل، وأعرف أنني سأخرج إلى بوّابة المسرح في نهاية العرض، وأقول للمشاهدين: ألم أقل لكم إن غودو لن يأتي اليوم. هل سيأتي غداً؟ من يؤمن بالغد يمكن له أن ينتظر، أما أنا فلا أعرف إلا ما لا أعرف. كل معرفتي الآن هي تلك الأشياء التي لا أعرفها، وهي معرفة تكفي أو لا تكفي، ليس مهماً، لأنها هي ما أعرف. ونحن نملك ما نملك حتى إن كان لا شيء. في المحصّلة، أنت تملك شيئاً ما.
ضرب الجيش، مساء أمس، بقوّة بيتين في قلب "بلوك 4" في المخيم، خلف المحلات المفضية للسوق. بيت لعائلة المدهون وآخر لعائلة مهدي. وكلاهما من مدينة المجدل. تدمّر المنزلان بشكل كامل، ولم تعد معظم البيوت المحيطة بهما صالحة للسكن أيضاً. والبيوت في المخيم تنتظم بطريقةٍ غريبةٍ لا يحكم إيقاعها أيّ منطق إلا فكرة أن من يسكنون فيها ليسوا بالأساس من هنا، وأن هذا مكان مؤقت. كنت أقف مع الشباب ننظر إلى المشهد المؤلم الذي يرافق جهود الإنقاذ، وإخراج الأموات والأحياء. فتاة في منتصف عقدها الثاني فقط ممدّدة على الأرض كأنها نائمة. نعم كأنها نائمة. لعلها كانت نائمةً حين وقع القصف، تغفو في جنّة الأحلام تبحث عن حلم يليق بالغد الذي تنتظره، من دون أن تعرف أنها لن تفيق في الصباح، ولن تفيق بعد ساعة، وأنها ستظل نائمة إلى الأبد فهذه نومتها الأخيرة. اجتهدت فرق الإنقاذ والشباب بانتشالها من بين الركام. كان سقفُ البيت قد وقع عليها تماماً، ونام فوقها. لم يخجل الطيار من أحلامها الوردية التي ترفرف كفراشاتٍ فوق عينيها، ولم يخجل من الطفولة التي قرّر أن يغتالها بقسوة القاتل المعهودة. أحدث القصفُ أضراراً كبيرة في البيوت المجاورة، وفي مثل هذه الحالات، يطير السكّان، ويقفزون في الهواء سابحين حتى يسقطوا في مكان آخر.
حين أمطرت السماء "تبهدلْنا". خرج يوسف ليقول إن لديه بركة سباحة في المنزل، وأنه يفكّر بتأجيرها للشباب. معظم بيوت المخيم تغرق في مثل هذه الحالات، خصوصا منطقة "المركز"، وأطرافٌ من حارتنا في الجهة الغربية. تساقط المطر محمّلاً بالغبار والرمال التي علقت في الجو خلال الأيام الماضية. وتساقطت بعض حبّات الثلج، وعصفت الريح ثم هدأت فجأة، كأن السماء رأفت بنا من ويل ما سيحدُث إذا هبّت العواصف لتقتلع كل هدوءٍ بقي معلقاً في حياتنا. وحين سطعت الشمس، كنّا نفكر في العاصفة المقبلة التي ستأتي لا محالة. شربنا القهوة ونحن نتحدّث في الشارع. مرّت سيارة إسعاف مسرعة، فتطاير الماء الآسن الوسخ على ملابسنا بعد أن داسته عجلاتها. كان هذا يحدُث قديماً، حين كانت مجاري المياه تمرّ في الشارع مثل نهر صغير. كانت شوارع المخيم المركزية مليئة بشبكة "الأنهار" تلك، وكنّا حين نلعب الكرة، وتقفز الكرة فجأة في المجاري يتطاير الماء ويرشُق وجوهنا وملابسنا. وحين نعود إلى المنزل، توبّخنا أمهاتنا على هذا اللعب الذي يجلب لهن أطفالا يحتاجون حمّاما ساخنا وملابس بحاجة إلى غسل. ولم يكن لديهن أي إجابة عن سؤالنا البسيط "وين نلعب؟". عموماً، كل وقت تكسبه في الحرب هو لصالحك، فحين أشرقت الشمس فرِحنا، لأن هذا يعني أن المعاناة التي سيسبّبها المطر والعواصف والبرد قد تأجّلت قليلاً.
حين أشرقت الشمس فرِحنا، لأن هذا يعني أن المعاناة التي سيسبّبها المطر والعواصف والبرد قد تأجّلت قليلاً
يُطلب، الآن، من سكّان المكان المؤقّت أن ينتقلوا "مؤقّتاً" إلى مكانٍ مؤقّتٍ آخر. قصف يستهدف بيتاً في المخيّم خلف مخبز دواس للصاج. يهرع الإسعاف إلى هناك. الدمار بين البيوت، والشمس غائمة، ورجال الإنقاذ منهمكون يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه. في شارع الحارة تمرّ سيارة الإسعاف محمّلة بالشهداء، ثم عربة يجرّها حمار يجلس عليها مجموعة من الجرحى يتأوهون، والحمار بالكاد يستطيع أن يسلك الطريق وسط الماء الراكد في الشارع واكتظاظ المارّة الكثيف. يتواصل القصف، والبيوت تواصل الاهتزاز. أشعل الجيش في الليل المخيم بمصابيح إنارة، يظلّ يسقطها من الطائرات، حتى تحوّل الليل إلى نهار. في الليل وقبل أن ننام، كنا نمنّي أنفسنا بليلة هادئة بدون ضجيج الطائرات وزنّ الزنّانات، فالغيم الشديد والمطر يعيقان عمل الطائرات. ولخيبة ظنّنا، وقبل أن نكمل إغلاق عيوننا، عاد صوت الزنّانة ليكون ونيسنا الأكثر إزعاجاً في الليل.
في منطقةِ محدّدةِ من الشارع، يمكن لنا أن نلتقط إشارة شبكة "أوريدو". ويمكن، بالتالي، إجراء مكالمات. وللمفارقة فقط، جوّال أخي محمد من يلتقط تلك الإشارة، وهو قديم جدّاً. وكنتُ أمزح وأقول إنه حضر الحرب العالمية الثانية، فهو مدرّب على الحروب. أما كل أجهزتنا الذكية فلم تكن تعمل، حتى إننا لم نعد نهتم أن نشحنها، لأننا بالكاد نستخدمها، فحتى الإنترنت في الزقاق الملكي الذي صرتُ استخدمه لالتقاط الإشارة يوم أمس وصل إلينا ربع ساعة ثم لم يعد. هل تعوّدنا على هذا الانقطاع عن العالم؟ مع الوقت، حتى أكثر الأشياء كرهاً لنفسك، يمكن أن تتعوّد عليها، لأنك لا تملك خياراً آخر. لذلك، صار يكفيني أن أقف في الصباح قرب الحادية عشرة، وأحاول من خلال جوّال أخي محمد القديم أن أتصل بهناء لأطمئنها علي وعلى ياسر. وهذا بات شيئاً كبيراً، ولا بدّ أن أشكر القدر أنه ما زال متوفراً، فقد لا يتوفّر بعد يوم أو آخر، مثل السلع على رفوف السوبرماركت التي كانت تختفي بين يوم والذي يليه. وإذا توفّر الإنترنت أجري مكالمة أخرى. لكن "إذا" هذه عزيزة وقد لا تحدُث. نعم صارت فكرة الانقطاع عن العالم واردة، وصارت فكرة التواصل أمراً نادراً في غياب كل شيء. وصار عالمك هذا هو الذي تعيش فيه، وتفاصيلك هي تلك التفاصيل الصغيرة التي تجري معك وحولك في هذا الشارع الذي تعيش فيه.
أسوأ ما في هذا الانقطاع عن العالم الذي تعيشه أنك تظلّ جاهلاً بكل ما يدور حولك، لا تعرف شيئاً. تجري الحرب وتسير، تدوس في طريقها كثيرين، وتأخذ الأكثر، وتدمّر وتهدم، وأنت لا تفكر إلا كيف يمكن لك أن تواصل حياتك وتحافظ عليها على الأقل لليوم، لأن غداً يوم آخر تفكّر فيه حين يأتي. لا أعرف شيئاً عن معظم أصدقائي، حتى الذين كنتُ أتقاسم معهم لقمة الخبز في الأيام الأولى للحرب، والذين قضيتُ معهم ليالي مؤلمة في انتظار الموت أو انتظار الحياة، وغامرنا في اتّخاذ قراراتٍ ظننّا أنها ستجنّبنا الرحيل الأبدي. الآن أفكر في حاتم وعبد الله وحكمت تحديداً. أتذكّر الأيام التي سهرنا فيها حين كانت الحرب تعصف، في أيامها الأولى، ونتشارك النوم في الممرّات بين طاولات التحرير في وكالة "سوا" في بيت الصحافة، أو حين ذهبنا لاستطلاع الحركة من الشمال إلى الجنوب، واضطُررنا للمبيت في منطقة النصيرات، وذهبنا إلى بيت حكمت في "البرّ"، وجلسنا في "الشقّ" البدوي الذي هو مكان القضاء الذي يحكم فيه والدُه بين الناس، ثم نمنا في بيت أخيه.
الدمار بين البيوت، والشمس غائمة، ورجال الإنقاذ منهمكون يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه
تسأل نفسَك عمّن تحبّ، وترجو بكل الابتهالات أن يظلوا سالمين. أفكّر في صديقي مأمون الذي كنتُ أسهر في بيته المكوّن من طبقتين (روف) في بناية قريبة من البحر، وكنّا نتحدّث عن الغد كأننا نمسك به بين أيدينا. لم نكن نعرف أن الغد قد غدا من دون أن يستأذن، وأن تفاصيله باتت جاهزة، وأن علينا أن نتحضّر لكل المفاجآت المؤلمة فيه. تهدّم بيت مأمون الجميل مع العمارة التي تهدّمت مع الحارة التي تهدّمت مع الحي (الرمال) الذي تهدّم مع المدينة. آخر شيء أعرفه أن مأمون انتقل للعيش لحظة استهداف المنطقة في مخيم خانيونس في بيت العائلة. أتذكّر الكثير من أصدقائي الكتّاب والفنانين الذي تواصلت مع كثيرين منهم في أيام الحرب الأولى، أسأل ويسألون ونتبادل الأمنيات بنهايات سعيدة لحربٍ مؤلمة. ما زلت أفكر في صديقي الكاتب يسري الغول الذي ظلّ في مخيم الشاطئ الذي دمّرته الدبّابات وداسته في هجوم شرس. لا أعرف إذا ما تمكّن من الخروج أم لا، ولكنني أدعو أن يكون سالماً فقط.
لخيبة ظنّنا، وقبل أن نكمل إغلاق عيوننا، عاد صوت الزنّانة ليكون ونيسنا الأكثر إزعاجاً في الليل
حين أسيرُ في شوارع المخيم، أقابل كل أصدقائي القدامى الذين شاركتُهم مقاعد الدراسة أو العمل التنظيمي أو السجن، وقد وجد كثيرون منهم طريقه في الحياة، فبنى بيتاً مستقلاً خارج المخيم، أو اشترى شقّة في مكانٍ بعيد. نضحك ونحن نقول إن مصيرَنا في آخر المطاف هو المخيّم. لا يهم أين نسكن ولا أين نعمل أو كيف، حين نشعر بالخطر نعود إلى رحم أمّنا، المكان الذي وُلدنا فيه. نقف نتحدّث ونعيد استذكار الماضي، لأننا لا نملك غيره. ثم نتمنّى أن تصبح هذه الوقفات من الماضي الذي سنتذكّره لاحقاً ونمضي، وتصبح هذه مجرّد ذكريات لا تصلح للحنين فقط.
(16 نوفمبر)
ذهبتُ لزيارة أختي أسماء التي تسكن في حارة الفالوجا غرب المخيّم مقابل مدرسة شادية أبو غزالة الثانوية للبنات. أسماء متزوجة من ابن خالتي فاطمة، وتسكن في بيت عائلة زوجها، حيث تسكن خالتي في الطابق الأول. كانت تلك فرصة حتى أزور خالتي، وأجلس معها نصف ساعة. تذكّرنا الجلسات مع الخالات بأمّهاتنا. وخالتي فاطمة تغمرني كل لقاء بهذا الشعور العارم بالحبّ والحنين. أخبرتني عن فزع الليلة الماضية، حين سقطت قذيفة دبّابة على البناية، واخترقت جدار بيت الدرج الخارجي، واخترقت الدرج وسقطت على البلاط. أشارت إلى ناحيةٍ قرب باب الشقة التي تسكن فيها، وهي تقول: هذه هي الشظية. كانت أربع قطع كبيرة من الحديد الثقيل حادّة الأطراف، ترقد مثل كلبٍ مفترسٍ تم قتله للتو.
توسّعت الجلسة، وجاء الأبناء والبنات. بيت العائلة يصبح، في الحرب، ملاذاً للجميع. صعدت بعد ذلك إلى الطابق الرابع، حيث تسكن أسماء. كان عليّ أن أنتبه فلا أهوي، إذ وضعت قدمي على الجزء المكسور من الدرج. لا يختفي الخوف من وجوه الناس ولا من حياتهم، فهو موجود دائماً في مثل هذه اللحظات. سقطت اليوم القذيفة على الدرج، أين ستسقط المرّة المقبلة؟ سألت أسماء. تسافر قذائف الدبّابات في كل مكان، وتسقط في كل اتجاه، هدفها الأساس ترويع الآمنين ودفعهم إلى الهجرة وترك بيوتهم والنزوح، الأمر الذي لم ينجح فيه الجيش، حيث ما زال نصف سكان شمّال غزّة ونصف سكّان مدينة غزّة في بيوتهم. لا يحبّذ كثيرون، حتى وإن كانوا يشعرون بالتهديد والخوف، أن يخرجوا من منازلهم. وتعكس عبارة "هنا موت وهناك موت" فهماً حقيقياً لرغبات الجيش ولسياساته.
تجري الحرب وتسير، تدوس في طريقها كثيرين، وتأخذ الأكثر، وتدمّر وتهدم، وأنت لا تفكر إلا كيف يمكن لك أن تواصل حياتك وتحافظ عليها على الأقل لليوم، لأن غداً يوم آخر تفكّر فيه حين يأتي
عملت لنا أسماء "فشار"، ومثل من يحضر فيلم سينما، أخذنا نستذكر تفاصيل الحرب في الأربعين يوماً الماضية. لم أر أسماء طوال الحرب، بل لم أرها فعلياً منذ عيد الأضحى، أي قبل خمسة أشهر. من النافذة، تبدو مدرسة شادية أبو غزالة التي تحوّلت إلى مركز إيواء بألواح الخيام والغرف القماشية والملابس المعلقة على الدربزين والنوافذ والحركة والجلبة والأصوات المختلفة فيها، تبدو قطعة غير متجانسة من معزوفةٍ على الجميع أن يسمعها.
انتقلت للعيش في المدرسة أختي حليمة التي كانت فترة وجيزة تسكن في محل صغير أسفل البناية التي تسكن فيها أسماء، بعد أن اضطرّت لترك بيتها غرب بلدة بيت لاهيا، بعد أن استهدفت الطائرات والدبّابات المنطقة، وحوّلت معظم بيوتها إلى ركام ودمار. يعاني بيت حليمة من أضرار كبيرة، حيث وقعت عليه أجزاء من بيت مجاور له تماماً. في ساحة الطابور، وتحت السقف المعدني المرتفع، صنع إسماعيل زوج حليمة لهما بيتاً مؤقتاً من البطّانيات وقطع القماش الكبيرة، بيتا مكوّنا من زاوية صغيرة للمطبخ وغرفة نوم. وأحضر برميلاً أزرق يملأه بالماء حتى يستخدموه في عمل البيت اليومي. يوم أمس، وحين تساقطت الأمطار، وهبّت ريح شديدة تطايرت أجزاء من الخيمة، ووجدوا المطر تحت فرشاتهم يحملها قليلاً عن وجه الأرض. فصول المدرسة مليئة بالنازحين، وكذلك المساحات المختلفة، حيث ينصُب فيها الناس خياماً وبيوتاً مؤقتة مثلما فعل إسماعيل. في ساحة الطابور حيّ من تلك البيوت العشوائية التي نصبها أصحابها، ونتجت عن هذا التداخل غير المنظّم بينها ممرّات ضيقة، هي شوارع تلك الحارة الجديدة. حين دخلتُ المدرسة، كان إسماعيل يجلس على كرسي على مدخل منطقة الخيام، يبحث عن شعاع شمسٍ فالتٍ من كثافة الغيم. قال مازحاً: "تركتوني في البحر وسط الحرب". ... وكان يشير إلى لحظة اندلاع الحرب، حين ظلّ يسبح، واضطُررنا نحن للركض باتجاه السيّارة. قلت له: كان الاتفاق قبل أن نصل إلى البحر، وقبل أن تصل الحرب سأسبح ساعة ونصف، ثم أذهب باتجاه الصفطاوي لمواصلة يومي، وأنت تخرج وقتما تشاء، وتذهب إلى بيتك القريب. ... شربنا القهوة وتحدّثنا، كان صوت القصف لا يتوقف والمدفعية لا تسكت.
قُتلت مساء أمس مديرة مركز الإيواء. سيدة من عائلة المصري من بيت حانون، كما قال إسماعيل. كانت تجلس في غرفة مع عشرين سيدة أخرى، حين أصابتها قذيفة في بطنها. خرجت أمعاؤها، ولم تنفجر القذيفة ظلت مغروسة في بطنها. لم يُصب أحد. طارت القذيفة كل تلك المسافة من موضع الدبابات غرباً أو شرقاً أو شمالاً، واخترقت بطنها وقتلتْها ولم تنفجر. أشار إسماعيل إلى الغرفة التي كانت تنام فيها هي وأخريات، وتدير شؤون مركز الإيواء منها.
سمعنا بحرب المدن وسمعنا بحرب الصواريخ، لكننا لم نسمع بحرب المستشفيات. لم يسبق لدولة في التاريخ أن أطلقت حرباً على مستشفيات عدوّها
في طريق عودتي من الفالوجا باتجاه بيت حماي، هالني مشهد التدمير الذي ألحقته غارة إسرائيلية بمجموعة بيوت، قرب مقبرة المخيّم خلف مطعم حمدان للفلافل. تساقطت بيوتٌ مثل أخيلةٍ تهدمت في وعيٍ انفلت من عقاله. حجارة في كل مكان وأعمدة باطون تطايرت ونوافذ لا تطلّ على مشهد، وأبوابٌ لا تُفتح في شارع، ولا في غرفة. أشياء معلقة وانتظارٌ أبديّ. حين مررْنا قبل ثلاث ساعات، كنت تلك البيوت هادئةً واقفةً ثابتةً مشغولة بحيوات من فيها، وكان صاحب محل الفلافل يحضّر نفسه من أجل وجبة المساء التي سيقليها، قبل أن يتقاطر الزبائن طالبين أقراصه الشهية. وكانت الصبية يجلسون على الشارع، وكان الأموات في المقبرة يغطّون في عالمهم الأبدي خلف البيوت. ومع أن تلك المنطقة المقصوفة لا تبعُد أكثر من مئتي متر ربما عن بيت المدرسة التي لجأت إليها أختي حليمة حيث كنتُ حين وقعت الغارة، إلا أننا لم ننتبه لوقوعها، لشدّة ما يقع من غارات كل دقيقة وكثرتها. أذكر أن محمود ابن حليمة قال إن صراخ الأحياء امتزج، في أثناء القصف قبل دقيقة في الحارة (المنطقة التي باتت حارتهم، أي "الفالوجا")، وهم يحاولون أن ينفذوا بجلدهم من الموت المحقّق جرّاء الغارة، مع الأموات الذي أقلق مضاجعهم صوت الانفجار العنيف. أما من أخذتهم الغارة فقد كانوا فقط بحاجةٍ إلى القفز خطوة أو اثنتين ليجدوا أنفسهم في بيوتهم الجديدة، القبور.
وقفتُ على النافذة في بيت حماي أنظر إلى مدرسة الإيواء وللمجتمع الذي يتكون هناك بعد مرور أربعين يوماً على وجودهم في ذلك الحيز الضيق الذي بات عالمهم الخاص. يطلّ البيت مباشرة على مدارس البنات الابتدائية في المخيّم، أي على منطقة تضم أكثر من ست مدارس متواصلة ومتداخلة. من النافذة، وأنا أقف، أصير جزءاً من نازحي المدرسة المقابلة مباشرة، إذ لا تبعد النافذة إلا ثلاثة أمتار عن سور المدرسة الداخلي. كانت العتمة قد التهمت كل شيء. وبدأ الأطفال يدخلون الغرف، والنسوة يتجمّعن في جلساتٍ مسائيةٍ داخلية، فيما يجلس الرجال على عتبات الممرّات ومداخلها، وفي طرفٍ محميٍّ من ساحة ملعب المدرسة، فقبل أسابيع، وقعت عليهم شظايا جرّاء قصف بيت مجاور، واستُشهد عدد منهم وأصيب آخرون. لذلك باتوا أكثر حذراً في التجوّل في الليل في ساحات المدرسة. كان الظلام ثم أشعل مسؤول المدرسة الكشاف الكبير، ومن ثم سرى النور في الغرفة والصالات والممرّات، وصاح الأطفال بفرحة، وصرخوا ترحيباً بالضوء الجديد.
لم يعُد صوت قذائف الدبابات تنفجر وتبخّ الموت على أطراف المخيم، وهو صوتٌ بات معتاداً، يقلق كثيراً، رغم أن القذائف، في مرّات، تصيب بيوتاً داخل المخيم. كما يقول فرج، قذيفة الدبابة "عمياء" لا تقصف أهدافاً محدّدة، حيث يتم ضربها من أجل تسهيل مهمّة تقدّم الجيش، وبالتالي تتساقط في كل مكان. تحدُثُ من وقت إلى آخر بعض المشكلات بين الجيران الجدُد في مراكز الإيواء، وهي مشكلاتٌ قد تتطوّر وتثير فوضى في كل المدرسة، ثم مع الوقت يجري تطويقها واحتواؤها. يشعر الناس بضيق كبير، وبأن هذا الحال الذي وجدوا أنفسهم فيه لا يليق بهم. يتركون بيوتهم ويعيشون في جماعات وعائلات ممتدّة في فصول مكتظة، ويصطفّون طوابير على الحمّامات، ناهيك عن تفاصيل الحياة العادية من تأمين للطعام وللملابس.
لم يعُد صوت قذائف الدبابات تنفجر وتبخّ الموت على أطراف المخيم، يقلق كثيراً، رغم أن القذائف، في مرّات، تصيب بيوتاً داخل المخيم
لا تقدّم وكالة الغوث (أونروا) شيئاً للآوين في مدارسها، حيث تتركّز كل جهود الإغاثة في الجنوب، حيث لا يسمح الجيش بدخول المساعدات إلى غزّة والشمال، لأنها مناطق طالب بإخلائها. وكل المنظمات الدولية، وإن صدرت عنها مواقف علنية عكس ذلك، تنفّذ ما تطلبه إسرائيل، فلا أحد يقدّم مساعدة للناس، لا للنازحين في مراكز الإيواء، ولا الذين بقوا في بيوتهم. عليك أن تتدبّر أمرك. تقدّم جهاتٌ وطنية بعض المساعدات، خصوصا وزارة الشؤون الاجتماعية التي تواصل طواقمها محاولاتً إدخال المساعدات الغذائية من خلال جمعية الهلال الأحمر، أو من خلال توفير كوبونات شرائية يستلمها المواطن من سوبرماركتات ومستودعات محدّدة، وقد شكّلت الحكومة فريقاً لمتابعة هذا الأمر. ومع ذلك، انعدم ما يتوفر في المستودعات في غزّة والشمال تقريباً، وصارت جهود الإغاثة بحاجة إلى جهود كبيرة من أجل الضغط على الجيش للسماح بإدخال الطعام.
تتفاعل أصداء دخول الجيش مستشفى الشفاء الذي صار الآن تحت سيطرة الجيش الكاملة، وفتّش حتى جراح المصابين، وبحث تحت جلودهم. المؤلم هو قدرة هذا العالم على أن يظلّ صامتاً إلى هذا الحد. ولكثرة ما طالبناه بالتدخّل صار يعتبر التنديد والبيانات والإدانة موقفاً كبيراً يجب أن يُحمد عليه. صارت تلك البيانات وصمة عار على أصحابها، لأنها تكشف عجزهم، ولأنها تقول إنهم غير قادرين على فعل شيء. يصدرون البيانات فقط، ويقنعون أنفسهم بأن ضميرهم بات مرتاحاً، وأنهم عملوا ما يقدرون عليه. مستشفيات تجري محاصرتها، ويُعتقل النازحون والمصابون والطواقم الطبية، وتُهاجم مباني المستشفى بالقذائف، والعالم يكتفي بأن يقول إن هذا مدان وغير لائق و... و... و.... وفي المحصلة، يغطّون في شخير طويل، فيما يواصل الجندي تفتيش كل زاوية وكل جدار وكل سرير وكل جرح. كنّا نقف في شارع الحارة نشعر بالحسرة على وقاحة العالم ووقاحة العدو، وقاحة تليق بدولةٍ صنعها هذا العالم الوقح. لا حدود للكراهية ولا حدود للوحشية ولا حدود لتلك الوقاحة. وحين يتذكّر المرء تاريخ قيام إسرائيل من المجازر التي ارتكبتها لـ"تطنيشها" الدائم المجتمع الدولي، وضربها بعرض الحائط كل قراراته، ويتذكّر أن هذه الدولة هي الوحيدة في التاريخ التي تم تأسيسها بقرار أممي، وأنها أوجدت ليس برغبة سكّان موجودين أصلاً على قطعة أرضٍ محدّدة، بل باتفاق مجموعة دول على صنع هؤلاء السكّان وتجميعهم من عشرات الدول، واختيار قطعة أرض ليست لهم، وطرد سكانها منها من أجل خلقها. ربما كان نشوء الولايات المتحدة قريباً من ذلك. ولكن حتى هذه كانت، بدايةً، مشروعاً استعمارياً قبيحاً، جرى فيه قتل السكّان الأصلانيين وإبادتهم. أما ما حدث في حالتنا، فثمّة قرار مسبق بوجود دولة، ثم عملت وكالات ومؤسّسات لتجمع هؤلاء السكّان الذين سيصبحون مواطنيها. ويكشف هذا الاختلاق الهشّ في متن التاريخ الكثير عن زيف كل تلك الادّعاءات التي لا تليق إلا بمجموعة دجّالين. أوضح شلومو ساند، بكثير من التفسير والأدلة، هذا الاختلاق عبر التاريخ، في مؤلفيْه "اختلاق شعب إسرائيل" و"اختلاق أرض إسرائيل" ثم مؤلفه الثالث "لماذا لم أعُد يهودياً؟".
كنا ننظُر إلى بعضنا بعضا، ولسان حالنا يقول: لم يبق إلا المستشفى الإندونيسي ليدخلوا عليه بعد احتلال مستشفى الشفاء، وقبل ذلك مستشفى الرنتيسي للأطفال في حي النصر. سمعنا بحرب المدن، وسمعنا بحرب الصواريخ، لكننا لم نسمع بحرب المستشفيات. لم يسبق لدولة في التاريخ أن أطلقت حرباً على مستشفيات عدوّها. يحافظ الجيش على وتيرة ثابتة في حصار المستشفى الإندونيسي، بحيث يظلّ المستشفى تحت الضغط المستمرّ، هو ومحيطه. تبدو القصة مسألة وقت، قبل أن تتقدّم الدبابات باتجاه ساحته الصغيرة، وينزل الجنود يوزعون شهادات الموت على من يشاؤون، وهم يفتشون أرواحهم الصاعدة نحو السماء.
المؤلم هو قدرة هذا العالم على أن يظلّ صامتاً إلى هذا الحد. ولكثرة ما طالبناه بالتدخّل صار يعتبر التنديد والبيانات والإدانة موقفاً كبيراً يجب أن يُحمد عليه
أحد أهم الأسئلة الآن هي عن الطقس. سألت فرج عن الطقس: فيه شمس؟ لا نريد المطر الآن، ولا الريح ولا البرد. الشمس بجانب الدفء تعني وجود طاقة شمسية، وبالتالي شحن البطّاريات التي نستخدمها في إضاءة صالون البيت في الليل بضع ساعات، قبل أن ننام. وتعني أيضاً أن نشحن هواتفنا الجوّالة. وربما الأهم تعني أن علاء، صاحب شبكة الإنترنت سيشغّل الإنترنت ساعتين أو ثلاثا إذا ما شحن بطّارياته. أشياء كثيرة تجعل قدوم الشتاء أمراً مكروهاً، ويزيد من أوجاعنا ومعاناتنا.
كانت الأخبار تتحدث عن قطع الاتصالات بشكل كامل صباح اليوم، بسبب نفاذ الوقود من محطّات تشغيل شبكة الاتصالات. لذا كان السؤال التالي الذي خطر على بالي عن الشبكة. في بيت فرج، لا توجد شبكة في كل الأحوال منذ تدمير المقصف المزوّد للمنطقة، ولكن، في مناطق محددة في شارع الحارة يمكن التقاط الإشارة. جاء أخي محمد، وقال إن الإشارة تعمل بشكل متقطّع في الشارع. بدا هذا خبراً مفرحاً، فعلى الأقلّ يمكن إجراء بعض المكالمات. صار فرج يستيقظ من النوم الساعة الرابعة والنصف، ويصعد إلى الطابق الثاني من البيت، وهو فارغ. ينتظر أن يعود ابنه وسيم من الإمارات، وينهي تشطيب الطابق ويسكن فيه. من هناك يتّصل بزوجته وأولاده وبناته في مراكز الإيواء في رفح.