يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، عن أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقا إنسانيا وشخصيا ومجتمعيا، رهيفا وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازيا مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضا من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعا في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.
(7 ديسمبر)
راحت أرض البصل. صارت الأرض التي كانت تغذي غزّة طوال العام بالبصل حارةً أخرى في مخيمٍ لا ينتهي. أرض البصل التي كانت جذوع البصل الخضراء تتمايل في وجه نسيمها أمام البحر البارد في الصباح، وتقف بخشوع أمام لهيب الشمس، تحوّلت إلى خيام منثورة، مثل وشم درَس. أرض البصل التي تحمل اسمَها، وتحمل معها ذاكرة سنواتٍ من العرق والكدح في سبيل أن تنضج حبّات البصل، وتخضر ثم تنشف وتصفرّ، تحولت الآن إلى مجرّد امتدادٍ آخر في ذاكرةٍ جديدةٍ تنمو مع الوقت. راحت أرض البصل، ولم يعد ثمّة بصلٌ، ولا أرض، بل خيمة وراء أخرى، وتأوّهات النازحين في البحث عن مكانٍ يقيمون فيه، حتى يقضي الله أمراً كان محتوماً.
راحت ذكريات المزارعين وانتظارهم أن ينضج زرعهم، وتأتي لحظات الحصار، فيقلعونه ويجمعونه في أكوام حتى ينشف، ويبيعونه في السوق. البصل، تلك النبتة التي تُقابَل رائحتها بالنفور، لا يمكن تخيّل أي مطبخ أو ربما أكلة من دونها، يسبّونها ويحبّونها. راحت أرض البصل وكبُر المخيّم وتمدّد، وزاد النازحون، ووجد من أفقدته الحرب المسكن مكاناً يقيم فيه. وبدل البصلة، نمت خيمةٌ، وبدل الجذع الأخضر تمّ غرس وتد، وبدل حفيف الأغصان الخضراء تُرفرف أقمشة الخيام في فضاءٍ لا ينتهي. ثمّة بحرٌ بعيدٌ قريب، وثمّة انتظار يطول ربما كعمر الموج، وكقِصر نفسه في الآن ذاته. ومع ذلك، ستحمل ذاكرة النازحين معها للأيام المقبلة اسم المكان، وسيقول الواحد منهم: خيمتي في أرض البصل.
بدل البصلة، نمت خيمةٌ، وبدل الجذع الأخضر تمّ غرس وتد، وبدل حفيف الأغصان الخضراء تُرفرف أقمشة الخيام في فضاءٍ لا ينتهي
طوال الليلة، لم نعرف النوم، ونحن نتابع الأخبار الواردة من جباليا. عشرات البيوت جرى استهدافها، وأحزمة نارية عنيفة طاولت أطراف حارتنا الشرقية والشمالية. تقع بعض البيوت التي جرى ذكرها في بعض الأخبار بجوار البيت الذي يقيم فيه أبي، بعد تهدّم بيتنا إثر استهدافه قبل أيام. أكلنا القلق على والدي، ولم تساعدنا شبكة الهاتف، حيث لم نتمكّن من الاتصال بأحدٍ هناك من أجل أن يطمئننا. تقول الأخبار الواردة من هناك إن الدبابات وصلت حتى مدخل حارتنا الغربي من جهة مستشفى اليمن السعيد أو منطقة السوافي، كما تحفظها ذاكرتي، كما تنزل من جهة تل الزعتر باتجاه المخيّم. لم يبق إلا حارتنا التي تشكّل قلب المخيم ومنتصفه من جميع الجهات. لا أحد يمكن له أن يُخبرنا أي شيء عن والدي. لم نعرف النوم. بقينا حتى الحادية عشرة في الليل، نحاول أن نتواصل مع أهل الحارة. تقول الأخبار إن 86 شخصاً قُتلوا في القصف الذي استهدف الحارة. لم نتمكّن في آخر أربعة أيام من الحديث مع والدي. ما أصعب هذا الشعور، حين تعرف أنك لا تستطيع أن تفعل شيئاً، وأن أحداً لا يستطيع أن يُساعدك في شيء، وأن كل محاولاتك عبث، وأنك لا تستطيع أن تفعل شيئاً، لأن لا شيء أيضاً يمكن عمله.
نجحنا، في الصباح، في الوصول إلى والدي. اتصلنا بعمر، أحد أبناء عمومتي الذين ظلوا في الحارة. قال إنهم جميعاً بخير. وهو يقصد كلهم، أي أبناء العائلة الذين ظلوا هناك. سار باتجاه البيت الذي يقيم فيه والدي، وتحدّثنا إليه. بدا صوته شاحباً، وهو يقول إنهم بخير. ليست الحارة بخير. "نحن لسنا بخير"، العبارة الشائعة في حديث الناس. استُشهد كثيرون خلال اليومين الأخيرين. تقصف الدبّابات بشكل عشوائي، وتقع القذائف باستمرار على بيوت الناس. أصيب بيت فرج بقذائف مختلفة، وتدمّر جزء منه. الشيخ أسامة وعائلته استشهدوا، كذلك جارنا وائل الذي كان صديقاً من زمن الطفولة العذب، الزمن الذي لا يعود.
نمت ذاكرتنا الجديدة قليلاً، إذ صار جزءٌ منها يتعلق بحياتنا هنا في المخيم الجديد. بات لنا جيران جُدد، وبتنا نعرف أسماءهم ونعرف قصصاً عنهم. نسمع أحاديثهم وخلافاتهم العائلية. وكلما مرّ الوقت، نطوّر تاريخاً لهذه الخلافات والأحاديث والعلاقات. نستطيع بالركون إليه أن نواصل صناعة مزيد من الذكريات المشتركة، وصياغة لحظاتٍ يمكن أن نقضيها معاً. المكان ذاكرة وكل مكان يصنع ذاكرته الخاصة، وكل ذاكرة ترتبط بالضرورة بمكانٍ ما. كتبتُ، مرّة، نحن لا نحبّ الأماكن، نحبّ ذاكرتنا فيها. وهو قول يحتمل إعادة الصياغة، فللأماكن نكهتها وخصوصيتها، رغم أننا فعلاً نتعلق بتلك الأماكن التي تصنع جزءاً من ذاكرتنا، وكانت مسرحاً لكثير من أحداثها.
قصفت الطائرات، ليلاً، بجوار المخيّم. كان هذا بالنسبة إلينا جديداً غير معهود في الأيام الأخيرة. كأنّا سمعنا صوتاً من الماضي من ذكريات تلك الليالي الأليمة في الشمال التي قضيْناها والقصف رفيقنا في كل دقيقة. لمع الضوء، مثل لهبٍ في الأفق، ثم هوى الصوت علينا، واهتزّت الأرض. كأننا اعتدنا ذلك، أو كأن ما يجري جزءٌ من شيء نعرفه أو نعيشه. لم نسأل أين ولا كيف ولا من، بل واصلنا حديثنا، ونحن ننظُر في أفق الشرق، حيث لمع الضوء الأحمر، ننتظر ضربة أخرى لم تطل، إذ لمع الضوء وهوى الصوت، واهتزّت الأرض، وواصلنا حديثنا من دون أن ننتبه إلى نتائج ذلك.
المكان ذاكرة وكل مكان يصنع ذاكرته الخاصة، وكل ذاكرة ترتبط بالضرورة بمكانٍ ما
ما زلنا، أنا وياسر، نعاني من آثار الزّكام الذي أصابنا منذ أربعة أيام. يؤلمني صدري، والبلغم يطبق على قفصي الصدري، ويبدو صوتي كئيباً متعباً. نام ياسر فترة أطول. قلتُ لعله يتعافى، فالجو صار أكثر برداً، خصوصاً أننا نضع فرشاتنا على الرمل الأصفر الذي "يبخّ" رطوبة وبرداً. في الليل، غطّيتُ، أكثر من مرة، صدره وجسده، خصوصاً بعد الفجر. تنتشر الفيروسات بشكل كبير في أوساط النازحين، والجميع يصاب في لحظة معيّنة بالزكام والأنفلونزا، وهناك من يُصاب بأمراض مُعدية، وبعضها صعب وخطر، ولا توجد رعاية صحية، لأن الجميع منشغل بمعالجة المصابين، ومحاولة إسعافهم وإنقاذ حياتهم. واصلتُ السعال صباحاً، خصوصاً مع تصاعُد دخان النار التي يوقدها أخي محمّد بجوار باب خيمتنا. أفكّر أن الدخان سبب أساس في كثير من وجع الصدر الذي أعاني منه. حتى الأرجيلة التي نتناولها في الليل سببٌ آخر. ولكن، ماذا يمكن لنا أن نفعل، فلا نستطيع العيش من دون النار، فلا يتوفر لدينا غاز حتى نطهو طعامنا أو نحضر شاينا.
كنتُ اليوم محظوظاً في مقرّ الهلال الأحمر، إذ أحضر لي شابٌّ يجلس معنا في الغرفة أربع مرّات قهوة. وفي كل مرة تبدو أكثر لذّة من ذي قبل. عرفتُ فيما بعد أن الشاب قدم من مقر الهلال في تل الهوا في غزّة وأحضر معه بضعة كيلوات من القهوة. هذا كنزٌ كبير. واصل غلي القهوة كل ساعة، وفي كل مرة يقدم لي كأساً منها يساوي كل ما شربتُ في الحرب من شاي وقهوة. حتى في الحرب، ثمّة لحظاتٌ تستحقّ الثناء وتستحقّ المديح.
أصوات الناس في الأسفل يطلبون مزيداً من الكابونات والمساعدات. ومزيد منهم يصل يوماً بعد آخر. أوضاع الناس صعبة، وما يمكن تقديمه ضئيل وقليل، ومهما تمّ الضخ في غزّة، فبعد شهرين من الإبادة ومن التشريد ومن وقف دخول البضائع، كل شيء يمتصّه الاحتياج المحلي بسرعة. وهذا يلقي عبئاً كبيراً على القائمين على القطاع الإغاثي الذي يتلقّى نقداً يومياً، فحدود ما يمكن تقديمه ضعيفة وضيقة، والاحتياج أكبر من المتوافر. الأصوات ذاتها كل صباح، حتى يأخذ الناس حاجتهم، ويمضون إلى يومهم المرهق والمتعب مثلهم.
حتى في الحرب، ثمّة لحظاتٌ تستحقّ الثناء وتستحقّ المديح
حظينا الليلة بلمّةٍ عائليةٍ صغيرة، إذ جاءت أختي حليمة لزيارتنا في الخيمة. تلك اللمّات التي تحدُث بعد أن ينتهي الجميع من الصدمة. أرسلتُ ياسر لانتظارها في الشارع، حتى يقودها بين الأزقّة الجديدة إلى منطقة خيام العائلة. جلسنا أربعة من ذرية أبي في الخيمة نتحدّث ونتذكّر ونحلم. شربنا الشاي الذي تم تجهيزه على النار، ثم ذهبتُ معها إلى خيمة خالتي نور التي ما زالت كل مرّة نراها تتحفنا بابتساماتها التي لا تتوقّف. اشتكت من أن الخيمة تكون مبلولة عند الفجر بسبب الندى. قلتُ لها أن لا تلمسها وتحرّكها حتى لا ينزل الندى عليها. ثم جالت حليمة على خيام العائلة، ثم عادت إلى خيمتها على مسافةٍ من خيامنا. مع الوقت، يكتشف المرء المزيد من تفاصيل المكان الجديد، ويتعرّف أكثر إلى من يقيمون داخله. وقد يُفاجأ ببعض الأهل وبعض الجيران وبعض من ظنّ أنهم بعيدون جداً عن مكانه. للحياة الجديدة قسوتها، ولها واقعها المرير.
يزداد الوضع في رفح سوءاً وزحمة واكتظاظاً، وينمو القلق ويزداد الانتظار. في كل مكان ناسٌ يتحرّكون ووجوه حائرة. لا يكاد يوجد شارع لا يسير فيه المئات، ولا يكاد يوجد زقاق، لا تجد فيه من يسأل عن مكان مدرسته التي نزح إليها قبل يوم أو اثنين. يحاول الكلّ أن يعرف موضعه في السياق الجديد الذي صحا من النوم ليغرق فيه. الوضع أصعب من المتخيّل، وحياة الناس لم تعد جحيماً، لأن الجحيم كما نسمع به أخفّ بقليل مما يعيشه الناس وما يعانونه. يحسّ الكلّ بالضياع وبالمجهول، وبالعتمة التي تربض خلف باب البيت، كلما يصحو من النوم أو تلك العتمة التي تأكله في الليل.
راحت حياتنا خلف كثبان الرمال التي كانت تقف كأشباح قرب شاطئ رفح، وصارت حياتنا مثل بصلةٍ تنمو في الرمال تغطّيها خيمة
في كل مرّة أسير في الشارع الرابط بين وسط المدينة وتلّ السلطان، الذي تحوّل إلى سوق كبير. كان السوق سابقاً يقتصر على منطقة وسط البلد، حيث يبدأ من الكراج (موقف السيارات) مروراً بمنطقة العودة، هبوطاً إلى جهة سوق الخضار والفواكه. أما الآن، فثمّة محالّ وباعة في كل مكان. بالطبع، لا يوجد الكثير يمكن أن تشتريه الأموال، فكل ما يُعرَض مكرّر وموجود في كل مكان. باعة الفستق وباعة الكسترد وباعة الحمضيات وباعة المخللات وباعة بعض أنواع الحلويات سريعة التحضير وبعض محلات الملابس. وأيضاً محالّ بيع الخضار، وهي محدودة، فلا يوجد مثلاً بطاطا، ولا يوجد أي نوع من الفواكه سوى الحمضيات. لا شيء آخر.
في كل مرّة أسير فيها في الشارع، أقابل أصدقاء وجيراناً ومعارف وأقارب. بعض الأصدقاء لا أكون قد قابلتهم منذ سنوات طويلة لا أذكرها، وآخرون يقفزون من عتبات الطفولة البعيدة. وهناك من لا أتذكّر في مرات أين قابلته أو عرفته، فالذاكرة تهرم أيضاً. وفي كل الحالات، عليك أن تكون لبقاً وأنت ترحّب بالجميع، لأنهم يلاقونك بترحاب وحبٍّ كبيرين، رغم جرحهم وحزنهم وظرفهم الصعب. وفي كل مرّة ثمّة سعادة عابرة، تطفو على وجهك، وأنت تسير بعد هذه اللقاءات السريعة غير المخطّط لها. قابلت اليوم الشاعر عثمان حسين. كنتُ أقشّر حبة الكلمنتينا حين مددتُ له نصفها، ولم يكن قد رآني. وقفنا عشر دقائق نتحدّث عن الأوضاع. بدوْنا متعبين منهكين. منزل عثمان في منطقة الشوكة قرب مطار غزّة. دُمِّر البيت بشكل كامل، وانتقل عثمان للعيش في شقّة في منطقة المستشفى الأوروبي. في الحرب الماضية عام 2014 أيضاً، دمّرت الدبابات منزله، وكان عليه أن يعيد بناءه، حتى تأتى الدبّابات مرّة أخرى وتهدمه. وفي الحالتين، ضاعت مكتبته وضاعت كتبه، وضاعت مخطوطات قصائده وخط يده في صباه وهو يركب موج الشعر. قابلت عثمان آخر مرة في معرض الكتاب في رام الله، قبل وقت من اندلاع الحرب. كان صيفاً مميّزاً بالنجاح الكبير الذي حققه المعرض، خصوصاً أنه أول مرة يعقد في عامين متتالين. على عثمان، مثل مئات الآلاف، أن يبدأ حياة جديدة وبيتاً جديداً ومكتبة جديدة وقصيدة لم ينته من كتابتها بعد.
راحت حياتنا خلف كثبان الرمال التي كانت تقف كأشباح قرب شاطئ رفح، وصارت حياتنا مثل بصلةٍ تنمو في الرمال تغطّيها خيمة.
(8 ديسمبر)
نجحنا الليلة الماضية في إحضار الحاجّة والحاجّ من المستشفى الأوروبي إلى المخيّم. لم يعد من الممكن تركهما هناك، خصوصاً أن جرحى كثيرين لا يجدون أسرّة ينامون عليها، بعد اشتداد القصف في خانيونس والأماكن المجاورة. يصل مئات من الجرحى يومياً، والازدحام كبير في أروقة المستشفى، ولا متّسع للمصابين الجدد. فبعد سفر وسام، لم يعد كثير من المنطق في وجود الحاج والحاجة في الغرفة التي يوجد من هو بحاجة لها أكثر منهما. أصرّ صديقي الدكتور فتحي أبو وردة على أنه سيتحدّث إلى مدير المستشفى من أجل أن يتركهما في الغرفة، باعتبار الحاجة مريضة وبحاجة لعلاج. قلتُ له: لا داعي، فالحاجة مريضة، ولكن هناك من سيموت إن لم يتوافر له سرير. واجهتُ مشكلة في تأمين سيارة إسعاف لنقلهما من المستشفى. كان عليّ أن انتظر حتى السادسة والنصف مساءً، حتى تتوافر سيارة نقل طبية من مقرّ الهلال الأحمر في خربة العدس ونذهب لإحضارهما. ذهبتُ برفقة اثنين من المتطوّعين من الهلال تبرّعا بأن يساعداني. كان الوقت ليلاً، وكان سائقنا أبو رياض قلقاً من أن التحرّك في الليل قد يعرّضنا للقصف من الطائرات الإسرائيلية. كلما أسرعنا كان أفضل. لكن أبو رياض الذي كان قد دهس طفلاً قبل فترة، فصار يخاف من السرعة الشديدة، لم يملك إلا أن يسير ببطء، رغم الخوف من الطائرات.
يخيف الليل في الحرب، والسيارة تسير وحدها في الطريق الشرقي الواصل بين رفح وخانيونس. تثير الأخبار عن القصف المستمر على خانيونس القلق، فالعمليات هناك مستمرّة، ووصلت إلى أطراف المدينة ومناطقها المختلفة. كان الظلام يحجُب عنها كل شيء حولنا، وكنا نعدّ أنفاسنا، ونعدّ الطريق التي نقطعها. وصلنا بعد ربع ساعة. قفزنا بسرعة، لأن الشاب المتطوع قال أيضاً إن من الأفضل أن نسرع، حتى نتمكّن من العودة إلى رفح بأسرع وقت ممكن، خشية وجود عملياتٍ في المنطقة الشرقية للمحافظة. صعدنا إلى الطابق الثاني. حملنا الحاجّة على كرسيّها المتحرّك وأنزلناها درجة درجة، ثم عدنا وحملنا كرسي وسام المتحرّك والبطّانيات والفرشة التي تنام عليها الحاجة. كانت مهمّة سريعة تمت بنجاح. سرنا في الطريق إلى رفح. حاول أبو رياض تجنّب أزمة شارع رفح الطويل، من وسط البلد إلى تل السلطان، من خلال المرور من الشوارع الخليفة. احتجّ أحد الشبان، فقال أبو رياض إنه ابن المنطقة، ويعرفها أكثر من أي شيء آخر. بدت الطريق غريبة، وكانت بالنسبة إلينا جميعاً جديدة، أول مرّة نسير فيها. وصلنا إلى خلف البركسات واستدرنا في أزقة ترابية. كانت الخيام تنتشر في كل مكان. لم أكن أتوقع أن امتداد الخيام وصل إلى كل هذه الأماكن. خيام في كل مكان وناس أخرى مشغولة بنصب خيامها الجديدة. يولد المكان من المكان، والخيام تنشق عنها خيامٌ أخرى، وكل أرض فارغة تنبت فيها خيامٌ جديدة. اتصلت بإبراهيم، وطلبت منه أن يخرج إلى الشارع، هو وشباب من العائلة، لمساعدتنا في حمل الحاجّة إلى داخل المخيم. تمّت المهمّة أيضاً بنجاح. وضعنا الحاجة في خيمة إبراهيم مؤقتاً، إلى حين نصب خيمة لها وللحاج. توجّعت في الطريق، إذ إنها غير معتادة الجلوس فترة طويلة، فهي تمضي كل نهارها وليلها ممدّدة على السرير. وكانت بين فينة وأخرى تسأل: "مطوّلين؟"، ويجيبها الشاب: "بعد شوية راح نصل". واستغرقت هذه "الشوية" عشرين دقيقة. ولمّا كان بعض الطريق التي سلكها أبو رياض ترابياً وزراعياً، اهتزّت السيارة أكثر من مرّة، وسارت فوق مطبّات صعبة. أخيراً، ارتاحت ومدّت جسدها فوق الفرشة.
الشعور بالأمن جماعي، وشعور الإنسان أنه مُحاط بمن يعرف يُشعره بالضرورة بالأمان وببعض الراحة
في الصباح، ذهب إبراهيم لشراء الخشب والنيلون والأغطية اللازمة لعمل خيمةٍ خاصة بالحاج والحاجة. كانت فكرتي أنني لو غادرتُ غزة سيكونان في مكانٍ يرعاهما فيه أحد، فهما الآن في وسط خيام يسكن فيها أفراد من عائلتنا، وبالتالي، سينتبهون عليهم ويراعونهما، خصوصا أخوي إبراهيم ومحمّد وزوجتيهما. ستجد الخيمة الجديدة لها مكاناً في ضوضاء الخيام المنتشرة في المكان. ستكون المرحلة المقبلة أن أحضر للحاجة سريراً حتى تنام عليه، فالنوم على الرمل مرهق ومتعب للظهر، وهي لا تحتمل. قال إبراهيم: لا توجد أسرّة ولا يوجد محلات موبيليا تفتح أبوابها للزبائن. قلت له: غداً نصنع سريراً من خشب نشتريه. أريد أن يكون كل شيء جاهزاً لهما. الشعور بالأمن جماعيٌّ أيضاً، وشعور الإنسان أنه مُحاط بمن يعرف يُشعره بالضرورة بالأمان وببعض الراحة. في الصباح، استيقظ الحاجّ وجلس مع أخي محمّد حول النار، وشربا الشاي. نام ياسر حتى وقت متأخّر نسبياً. كذلك الحاجّة. بدا هذا الصباح عادياً جداً بالنسبة إليهما، بل إنه أعاد الحاجّ إلى الحارة ولمّات العائلة التي افتقدها في الأسبوعين الأخيرين، بعد خروجنا من غزّة. اقترحت على ياسر أن يبقى في المخيم اليوم، حتى يراعي جدّته ويلبي مطالبها. كان يودّ أن يخرج معي إلى مقر الهلال ليتمتع بخدمة الإنترنت. قلت له: يمكن أن يشتري كرت ويشبك موبايله على شبكة الشوارع.
قد تبدو رفح أغلى مدينة فلسطينية اليوم، وربما أغلى من نظيراتها في المنطقة، فالبضائع قليلة والطلب كثير، والتّجار لا يرحمون. يرتفع سعر كل شيء من يوم إلى آخر. كيلو الكلمنتينا الذي لم يكن، في أحسن أحواله، في كل قطاع غزّة، ليزيد على شيقلين بات الآن بـ12 شيقلاً. وهذا مخيف. كل شيء، حتى اللحوم البيضاء، ناهيك عن أدوات المطبخ وبعض السلع الأخرى. كلّ شيء سعرُه مرتفع إلى الدرجة التي باتت المائة شيقل لا تساوي عشرة شواقل في الأيام العادية. وهذا لا يعني أن لدى الناس مالاً كثيراً، فمعظمهم خرج مضطراً تحت القصف، ولم يحمل معه محفظته. ولكن صاحب الحاجة لا يسأل عن التفاصيل في مرّات كثيرة. فالمرء إذا احتاج شيئاً، وكان مضطرّاً إليه سيشتريه. اشتريتُ نصف كيلو كلمنتينا، وقلت سأقشّرها وآكلها وأنا أمشي في الطريق. كنتُ أشعر باحتقان في حلقي، وكنتُ بحاجة لبعض السوائل وبعض الفيتامينات. قابلتُ في ميدان العودة صديقي جمال، ولم نكن قد التقينا منذ سنوات. رجع جمال الذي كان يسكن في تل الهوا بعد قصف الحيّ إلى بيت عائلته في خانيونس، وها هو بعد تعرّض منطقتهم الجديدة للقصف ينتقل للعيش في رفح عند أنسباء لهم. الحياة رحلة لا تتوقّف، والنزوح حكاية لا تنتهي. بدوْنا تائهين ونحن نتعانق ونسأل عن الأحوال ونتبادل الأخبار عن الأصدقاء والمعارف، قبل أن نسير كل في طريقه.
الحياة رحلة لا تتوقّف، والنزوح حكاية لا تنتهي
اللية الماضية سألت جمعة إسماعيل زوج أختي حليمة، وكان قد جاء ليسهر معنا، كم مكاناً نزح إليه خلال الحرب. أخذ إسماعيل، لاستغرابي، يعدّد الاماكن حتى أحصى ثمانية أماكن. كان هذا المخيّم مكانه الثامن. لم أصدّق، ولم أفكر في الأمر. كنتُ أتابع أخباره، ولم يخطر ببالي أنه تنقل هو وحليمة والأولاد والبنات بين ثمانية أماكن. يا لرحلة العذاب تلك! صمتَ إسماعيل، وقال: الله أعلم. كانت العبارة تعني أن ثمّة ما هو قادم. سأل جمعة: قصدك أنك قد تنقل إلى مكان آخر. هزّ برأسه نافياً، وقال: لا بالطبع، ولكن لا أحد يعرف. قال جمعة: لا تقصد إلى سيناء. قال: هذا صعب.
نسمع صوت القصف من بعيد، وفي مرّات يهزّ المنطقة المحيطة بنا، خصوصاً حين تستهدف الطائرات مناطق في قلب مدينة أو مخيّم رفح. نعرف عن مكان القصف بعد ذلك من الرسائل النصّية التي تشكّل مصدر الأخبار الأول لنا. يكاد الواحد منا يكون قد نسي شكل التلفاز أو كيف يكون شعور المرء حين يجلس أمام شاشة التلفاز يشاهد نشرة الأخبار. آخر مرّة حضرت فيها الأخبار من خلال مشاهدة التلفاز كانت قبل أكثر من شهر في بيت أختي عيشة في تل الزعتر. كان ذلك في المساء. الآن، لا يفكر الواحد منا في التلفاز أو في أي شيء آخر، حتى فكرة الأخبار انتهت من عقولنا، فنحن الأخبار. لم نعُد نكترث كثيراً إذا كنّا نعرف موضع القصف أو لا. لم يعُد هذا مهمّاً، ولكن لا بأس لو عرفنا. أتذكّر أحاديث الحارة في المخيّم بشأن أول تلفاز أحضره أحد أقربائي في ستينيات القرن الماضي. وأتذكّر الأحاديث عن الرجل الذي ذهب لشراء جهاز راديو طالباً من صاحب المحلّ أن يبيعه راديو "من اللي بغنّي ست الحبايب". وللمصادفة، كانت الأغنية تبثّ وقت شراء الراديو على الإذاعة باستمرار. مرّ يومٌ أو اثنان، وأعاد الراديو لأنه لم يعد يسمعها عليه.
قال أخي محمّد إنه يفكّر في شراء شاشة تلفاز وتركيب جهاز لاقط تقليدي فوقها وتشغيل التلفاز. في إحدى مدارس الإيواء، نجح رجل في فترة الهدنة بالعودة إلى بيته وإحضار جهاز التلفاز القديم وبطارية شحن كهرباء، ووضع التلفاز على طاولة خشبية صغيرة، قرب باب الفصل الذي تحوّل إلى غرفة نومه، هو وآخرين، وبدأ يشاهد الأخبار هو وزوجته. كان الرجل يظنّ أنه يقضي وقتاً خاصاً مع زوجته، حين التفت فجأةً بعد خمس دقائق، ليرى خلفه عشرات النازحين يقفون وراءه يشاهدون الأخبار معه. نحن الآن قرب حدود مصر، قال محمّد، وبسهولة يمكن لنا أن نلتقط القنوات المصرية من دون ستالايت. يبدو كل هذا الحديث عابراً، لأنه يكشف الكثير من الأماني، لكنه عند التطبيق يصير صعباً.
القليل مما كان عادياً قد يساهم في جعل الحياة أقلّ مللاً. تبحث الناس عمّا يجعل حياتها أقلّ عبئاً، رغم أن المُتاح لهم قليل
سألتُ جمعة: "شو صار بمبادرة تعليم الأطفال". هزّ رأسه، وقال: "إخلاص" زوجة علي أحد أقربائنا تعكّر مزاجها بعد اعتقال زوجها على "معبر" الطريق من غزّة إلى الجنوب. قلت: لا بأس، ولكن شبّاناً وشابّاتٍ كثيرين كانوا مدرّسين سابقاً، ويمكن لهم أن يؤدّوا هذا الدور. الفكرة بحاجة لتفكير، فالعام الدراسي يضيع، والجيل الذي كان يجب أن يدخل المدرسة يفقد سنة من عمره. علّق جمعة: أشياء كثيرة تضيع. حياتنا كلها تضيع. هذا صحيح، ولكن يجب وقف ما نقدر من هذا الضياع، حتى لا يضيع منّا أكثر. ما أقوله أن أفكاراً كثيرة تبدو سهلة عند طرحها، لكنها تصير عصية عند محاولة تنفيذها، مثل فكرة تلفاز في الخيمة. ضحكتُ، وقلت لمحمّد إنه سيكون أول من أدخل التلفاز إلى المخيم. وكان محمّد أول من أدخل "بانيو" للاستحمام في خيمته، وصار يأخذ حماماً في البانيو الحديدي الصغير، بعد تسخينه الماء على الحطب، ثم يسكبه في إناء أوسع، ويخفّف من سخونته بالماء البارد، ثم يستمتع وهو يستحمّ. القليل مما كان عادياً قد يساهم في جعل الحياة أقلّ مللاً. يبحث الناس عمّا يجعل حياتها أقلّ عبئاً، رغم أن المتاح لهم قليل، ورغم أنهم بحاجة لأشياء كثيرة، حتى تبدو لهم الحياة أسهل وأقلّ سوءاً. ما أقوله أننا تقريباً نسينا الكثير من تفاصيل حياتنا العادية، ونسينا كيف يكون شعورُنا ونحن نعيشها.
كانت جلسات التلفاز من تلك اللحظات المفضّلة لي في نهايات اليوم، وقبل الإخلاد إلى النوم، حيث أجلس، أنا وهناء والأطفال، أمام التلفاز، ونحضر فيلماً. ليس مهماً نوع الفيلم، المهم أن نزجي الوقت، ونحن نتحدّث ونسرق بعض اللحظات لنشاهد الفيلم. اليوم، كل تلك الطقوس والعادات انتهت، ولم تعد جزءاً من سعينا نحو حياتنا التي نعرفها، فلا كهرباء ولا ماء نقيّ بشكل كامل، ولا جلسات سمر حقيقية. لا شيء حقيقي مما نعرفه. بات كل هذا المؤقت يرهق سعينا من أجل البقاء والاستمرار.
وكالعادة، يجب أن يحتوي نهارُنا على بحثنا عمّن نحبّ، ومحاولة الاتصال بهم والاطمئنان عليهم، للتأكد أنهم بخير، وأن الحرب لم تأخذهم بعد، وأنهم ما زالوا يجاهدون من أجل أن يظلّوا أحياءً.