قبل أيام من الاحتفاء بالذكرى الرابعة للثورة في تونس، أصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الدوليّة التي تُعنى بحقوق الإنسان، تقريراً حمل عنوان "المحاسبة المنقوصة: أوجه القصور في محاكمات جرائم القتل أثناء الثورة التونسيّة". وقد ركّزت المنظمة فيه على نقد جهود الحكومات المتعاقبة لمحاسبة جرائم القتل التي ارتكبت خلال الثورة، وعدم التعامل الجدي لكشف الحقيقة.
وبيّنت "هيومن رايتس ووتش" أنّه وباستثناء إصدار عقوبة بالسجن المؤبد في حق الرئيس السابق زين العابدين بن علي، لم تصدر عن بقيّة المحاكمات إلا عقوبات مخففة وأحكام بالبراءة، وهو ما يعني "الإخفاق في محاسبة مرتكبي الانتهاكات وفي تحقيق العدالة لعائلات الضحايا"، بحسب المنظمة التي ترى أنّ سبب الإخفاق هو اختصاص المحاكم العسكريّة في النظر في هذه الجرائم والضعف في جمع الأدلة.
وأشارت المنظمة إلى أنّ المحكمة في المقابل وصلت إلى أدلّة كافية لإدانة الجناة، لكنّها أعادت تعريف الجريمة من القتل العمد إلى القتل على وجه الخطأ، مبررة ذلك بأنّ ملابسات الأحداث تشير إلى أنّ المتهمين أطلقوا النّار في خضمّ الفوضى ولم تكن لديهم نيّة القتل.
شهداء الثورة وجرحاها
بلغ عدد جرحى الثورة 3750 جريحاً في حين سقط 321 شهيداً، وفق ما أعلن عنه رئيس اللجنة التي أوكلت مهمة إعداد القائمة النهائيّة والرسميّة للشهداء والجرحى الذين سقطوا خلال الثورة التونسيّة، هاشمي جغام. وجاء في تقرير المنظمة أنّ قوات الأمن التونسيّة تسبّبت بمقتل نحو 132 متظاهراً وجرح آلاف المتظاهرين في خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 إلى 14 يناير/كانون الثاني 2011.
وأوضح التقرير، الذي اعتمد على مقابلات مع وكلاء الضحايا وعائلاتهم ومع ممثلين عن القضاء العسكري وكذلك على تحليل معمّق لوثائق المحكمة، أنّ العدد الإجمالي للمتهمين بارتكاب هذه الجرائم كان 53 شخصاً عرضوا أمام المحكمة في أواخر 2011. ومن بين هؤلاء الأشخاص، وزيران سابقان للداخليّة ومسؤولون في الوزارة نفسها وضباط شرطة وأفراد من قوات الأمن الداخلي، بالإضافة إلى بن علي نفسه والذي حوكم غيابياً.
تشريعات قديمة
وركّزت المنظمة في تقريرها على التشريعات القديمة التي أجريت هذه المحاكمات على أساسها في محاكم عسكريّة. أما قصور تلك المحاكمات، فأتت بحسب المنظمة من خلال فشل فريق الادعاء في جمع أدلة هامة في خلال التحقيق، وعدم نصّ القانون التونسي على مسؤولية القيادة في ما يخصّ الجرائم التي يرتكبها أعضاء من المؤسسة.
وتقول رئيسة مكتب منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تونس آمنة قلالي في حديث إلى "العربي الجديد"، إنّه "وعلى الرغم من إدخال بعض الإصلاحات على منظومة القضاء العسكري في يوليو/تموز 2011، إلا أنّها ما زالت تحمل ثغرات عديدة تجعلها تفشل في أن تكون سلطة مستقلة". وتتحدّث أيضاً عن "فشل السلطات التونسيّة في جلب بن علي من السعوديّة وتحقيق عدالة انتقاليّة لإنصاف كلّ الضحايا".
وتشدّد قلالي على ضرورة أن تضاعف الحكومة جهودها لضمان جلب المتهم الرئيس في هذه المحاكمات الرئيس السابق بن علي، بالإضافة إلى إصدار وزير الداخليّة أمرا ملزما يحثّ فيه قوات الأمن كلها بالالتزام الدائم بأهم المعايير الدوليّة، خصوصاً في ما يخصّ استخدام القوة والأسلحة الناريّة من قبل الموظفين المكلفين بتطبيق القانون، بالإضافة إلى الاحتفاظ بجميع الأدلّة التي قد تثبت حصول انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان لدى أجهزة الأمن.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الأحكام الصادرة عن القضاء العسكري في أبريل/نيسان الماضي، والتي قضت بتخفيض العقوبات ضد أبرز كوادر نظام بن علي - من أمثال وزير داخليته رفيق بلحاج قاسم ومدير الأمن الرئاسي علي السرياطي - إلى ثلاث سنوات في قضايا تتعلق بقتل المتظاهرين خلال أحداث الثورة، قد أثارت سخط وكلاء عائلات الضحايا. فتلك الأحكام سمحت بالإفراج عن المتهمين لقضائهم مدّة السجن خلال فترة توقيفهم، في حين خرج معظم وزراء بن علي من السجون.
وقد رأت هيئة الدفاع عن العائلات أنّ الأحكام أتت بمثابة طعنة في ظهر الثورة. لكن قانون ديسمبر/كانون الأول 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقاليّة وتنظيمها، يعطي لهيئة الحقيقة والكرامة حقّ مراجعة القضايا المتعلقة بأحداث الثورة التي نظرت فيها محاكم عسكريّة وإحالتها إلى الدوائر المتخصصة لإعادة المحاكمة. بالتالي، قد يؤدي هذا القانون إلى إعادة فتح هذه القضايا ومعالجة القصور الذي سجّل في المحاكمات العسكريّة وكشف الحقيقة.