تراجعت الفضاءات التي كانت مخصصة للاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية في الجزائر. هي مقتصرة اليوم على عدد قليل من المدن المعروفة ببعدها السياحي، مثل وهران وبجاية وعنابة في الشمال، وتاغيت وتيميمون في أقصى الصحراء. تغيب المفرقعات النارية عن كلّ المدن ما عدا تلك التي تشهدها ساحة البريد المركزي في الجزائر العاصمة، قبيل الساعة الصفر لدخول العام الجديد.
يلاحظ أنّ هذا التراجع يترافق مع إغلاق متاجر المشروبات الروحية، في ثلثي المحافظات الثماني والأربعين، بقرارات من ولاة هذه المحافظات، وليس بقرار مركزي. فمدينة مثل معسكر كانت تعرف بعاصمة النبيذ، لكنّها اليوم لا تتوفر على نقطة بيع واحدة، وبات شبابها الراغبون في الاحتفال، يقصدون مدينة وهران التي تبعد عنها بـ97 كيلومتراً. وهو ما يفعله أيضاً شباب مدن مجاورة مثل تلمسان ومستغانم وسيدي بلعباس.
يقول مختار س. الناشط في مجال حماية المستهلك في معسكر لـ"العربي الجديد": "هذا الواقع ينعش السوق السوداء في المدينة. فاليومان اللذان يسبقان رأس السنة، يشهدان إقبالاً كبيراً على نقاط البيع غير الشرعية، التي عادة ما نجدها في الغابات أو بعض بيوت الأحياء الشعبية".
من جهته، يكشف أحد الموزعين المعتمدين للمشروبات الروحية في الجزائر العاصمة، أنّ المبيعات تتضاعف سبع مرات في هذه الأيام. يقول إنّ محله يشهد تدفقاً للشباب الآتين من مدن لا تتوفر فيها هذه المحلات، خصوصاً أولئك الذين لا يستطيعون أن يؤمّنوا لأنفسهم مكاناً في الفنادق والقاعات التي تنظم الاحتفالات.
جولة في الشوارع الرئيسية للعاصمة، مثل ديدوش مراد والعربي بن مهيدي وحسيبة بن بوعلي وساحة الشهداء، تكشف متاجر تبيع بطاقات التهنئة، والشموع والحلويات الخاصة بالمناسبة. كما جهزت بعض المطاعم نفسها، فوضعت إعلانات عن برامجها خلال السهرة. بعضها يقدم عشاء خاصاً بالعائلات، ويجري الحجز فيها مسبقاً، بمبالغ تتراوح ما بين 50 دولاراً أميركياً و100 دولار للشخص الواحد، وبعضها جهز سهرات مع نجوم الأغنية الجزائرية.
الرحلة من الجزائر العاصمة إلى أقصى الصحراء، على بعد 1500 كلم، عبر مدن الشلف وغليزان ومعسكر وسعيدة وبشار والقنادسة وتاغيت وبني عباس وأدرار وتيميمون، تكشف تفاوت استعدادات المدن الجزائرية للاحتفال برأس السنة.
اقرأ أيضاً: حرب الأزقّة.. معارك عدم التجانس في الجزائر
في مدينة تيميمون تتنافس الفنادق والمؤسسات السياحية، في وضع اللمسات الأخيرة لاستقبال آلاف السياح الآتين من القارات الخمس، للاحتفال بالمناسبة، في هذه المنطقة الصحراوية الآمنة. المنطقة معروفة بفنونها، حتى أنّ بعضها صنفته منظمة اليونسكو من التراث الإنساني، مثل رقصة "أهل الليل". والتحضيرات نفسها تجري في منطقة تاغيت المعروفة بالتزحلق على الرمال.
يقول أمين خ. الشاب الآتي من مدينة قسنطينة (شمال)، إنّ الجزائريين باتوا يفتقدون الاحتفالات، في ظل إهمال الحكومة للسياحة، واعتمادها الكلي على عائدات النفط. يتابع: "نملك من المؤهلات السياحية ما يجعلنا قادرين في مناسبة مثل احتفالات رأس السنة الميلادية على استقطاب ملايين الباحثين عن الراحة والجمال والتميز".
بُعد هذه الوجهة السياحية الجزائرية في الجنوب، وغلاء أسعارها، وضعف خدمات وجهات أخرى في الشمال، كل هذا يدفع بالكثير من الجزائريين، خلال رأس السنة، إلى السفر باتجاه تونس للاحتفال. يبرر ياسين ف. من مدينة بوداو هذا الخيار: "احتفلت مع ثلاثة من أصدقائي بعيد الميلاد، في وهران العام الماضي، لمدة يومين، فأنفقنا ما أنفقه أربعة من أصدقائنا في تونس على مدار أسبوع، مع الفارق طبعاً في جودة الخدمات، وضمان الحرية الشخصية في تونس".
احتفال قطاع واسع من الجزائريين، خصوصاً الشباب منهم، بعيد رأس السنة الميلادية، يرافقه في كل مرة، خلال السنوات الأخيرة، نقاش ديني وثقافي، عن جدوى ذلك، في ظل وجود أعياد تدخل في صميم الهوية الجزائرية. وقد وصلت بعض الدعوات إلى الاستنكار والتحريم.
وعن ذلك، يقول أحد القيمين على مسجد "مصطفى بن التهامي" في مدينة معسكر: "هذا ذوبان غير مسموح به في الثقافة الغربية، ومن شأنه أن يجردنا من خصوصياتنا الدينية، وهو مجاراة لغير المسلمين في أعيادهم". ويرد أحد مدرسي القرآن في زاوية سيدي بن بوزيان في محافظة بشار بالقول إنّ هؤلاء الذين يحرّمون الاحتفال بميلاد المسيح، هم أنفسهم يرون في الاحتفال بمولد الرسول محمد بدعة من البدع: "إنهم لا يحسنون إلا التحريم، والقفز على حق الإنسان في الفرح".
اقرأ أيضاً: "بلا تدخين" مقهى يتحدّى التقليد