أفكّر أحياناً لو أنّنا نقصدُ جميعاً المعالجين النفسيّين. قبلَ التوجّه إليهم، لا داعي للتفكير طويلاً في الملابس الأنسب أو العطر الأجمل. لا يهم ما قد نُضيفه إلى أنفسنا. العقود الملوّنة أو الأقراط الغجرية أو الأحزمة الرفيعة عند الخصر. يكفي أن ينظرَ هؤلاء في عيوننا حتى نستذكر حياةً سابقة. لوهلة، نظنّهم على غرار قارئي الطالع مع فارق في الزمن. المعالجون النفسيون يقرؤون ماضينا والمنجّمون يقرؤون مستقبلنا.
كأنّنا نتحضّر لموعد غرامي. تتسارع دقات قلوبنا. هي المرات القليلة التي سنكون فيها على طبيعتنا. ونحن في الغالب، لا نحسنُ تفسير طبيعتنا هذه. نظن أن الأمر محصورٌ بشَعرٍ مشعّث أو وجوهٍ غير حليقةٍ أو رقصة في غير موعدها أو قبلة خارج محلّ لبيع العصائر أو ركض في شارعٍ مزدحم. لا. الأمرُ ليس كذلك. داخل عياداتهم، سندنو من جوانبنا المعتمة. سنفتح الصندوق الموضوع في العليّة وننفض الغبار عنه. سنخرج موقفاً تلو الآخر ونعيد ترتيب أحداث الماضي. والترتيب هنا لا يستند إلى التسلسل الزمني للأحداث، بل وقْعُها علينا.
مواقفُ كثيرة سقطت فوق رؤوسنا. المشكلة أنها لا تُحدث جلبة لحظة وقوعها. تتريّث طويلاً قبلَ أن تعلن عن نفسها فينا. تشبه الجواسيس أو ملفات أجهزة الاستخبارات السرية. لكن ماذا نفعلُ في عياداتهم؟ خلال إحدى الجلسات، رحتُ أحدّق في عينيّ المعالج. تُرى ماذا يكون همّه؟ هل أحب إحدى مريضاته وما زال يحتفظ بسره هذا؟ كيف يكون قادراً على استقبال هذا الكمّ من المشاعر السلبية؟
خارجَ عياداتهم، نبحثُ عن توازننا على الأرض. أن نمشي من دون أن نسقط لا يعني أننا لن نفعل. نبدأ في البحث عن جاذبيتنا في اللحظة التي نُدرك فيها أن الماضي أقرب بكثير من المسافة التي تفصلنا عنه. وعادةً ما يؤدّي المعالجون هذا الدور. نظنّ أننا نعاني من وجعٍ أو اثنين على الأكثر، قبل أن نكتشف أن الماضي أشبه بخلايا سرطانية.
أقرأ هذين السطرين في رواية "الموت السعيد" لألبير كامو. يقول إن "الخطأ هو الاعتقاد بوجوب الاختيار، بوجوب عمل ما نريده، وأن هناك شروطاً للسعادة. إن ما يهم فقط هو إرادة السعادة. أما الباقي، النساء، الأعمال الفنية أو النجاحات الدنيوية، فليس إلا ذرائع". ربما هي المرة العاشرة. هل أراد كامو السعادة فملكها؟ هل أراد الحب فوجده؟ هل أراد منزلاً فسكنه؟
يشبه كامو المعالجين النفسيين. هؤلاء يؤمنون أن حياتنا تصنعها أدمغتنا وليس الأحداث. نريدُ فنكون. علينا فقط تصفية ماضينا من شوائبه. والجاذبية قد تستجيب لكلامنا الكثير في عياداتهم. لو أنّ جميعنا يقصدهم..