لا إحصائيات رسمية عن عدد الأرمن الذين بقوا في تركيا بعد أحداث عام 1915، أي خلال الحرب العالمية الأولى. فمن بين أكثر من 77 مليون مواطن تركي، تشير إحصائيات غير رسمية إلى أن عدد الأرمن يقدر بنحو 60 ألف شخص، يتمركز معظمهم في مدينة إسطنبول. مع ذلك، يبدو العدد أكبر من ذلك، وخصوصاً أن أعداداً كبيرة من العائلات الأرمنية ما زالت تخفي هويتها الحقيقية وتمارس شعائرها بالسر، واختارت لنفسها أسماء كردية أو تركية.
أخيراً، تغيّر الوضع في تركيا. وصار هناك انفتاح أكبر حيال الأقليات الإثنية كالأكراد أو الأقليات غير المسلمة كالأرمن والسريان، وإن ما زالت هناك ممارسات عنصرية بحقهم سواء في دوائر الدولة وغيرها. ويبقى الأرمني "مشروع خائن" بنظر معظم المواطنين الأتراك والأكراد. وينسج المواطنون حولهم الكثير من القصص والروايات، وخصوصاً عن سعيهم إلى تقويض الجمهورية.
افتتحت كنيسة سانت غيراغوس الأرمنية في مدينة دياربكر (جنوب تركيا) ذات الغالبية الكردية عام 2011، بعد حوالى مائة عام على إغلاقها. وما زال العديد من مرتادي الكنيسة من الأرمن يخفون هويتهم خارج الكنيسة، فيكونون أكراداً قبل أن يتحولوا إلى أرمن داخل الكنيسة. ويؤكد قارع أجراس الكنيسة آرام خاجيكيان أن جدّه، عندما كان طفلاً، نجا من أحداث عام 1915 وتبنّته عائلة كردية. تربى كمسلم واتخذ لنفسه اسماً كردياً. ويؤكد والد خاجيكيان أن الجدّ لطالما عانى من العنصرية، وظل يطلق عليه لقب "الكافر"، كونه ينتمي إلى أصول أرمنية. يقول خاجيكيان: "لا أنسى المرة الأولى التي دخلت فيها إلى الكنيسة. كان قلبي يخفق بشدة وشعرت بفرحة كبيرة، كمن وجد نفسه بعدما أضاعها. أما باقي أفراد العائلة، فما زالوا يتردّدون في الذهاب إلى الكنيسة".
من جهته، يؤكد أرمين دمريجيان (54 عاماً)، وهو موظف حكومي ساهم بشكل كبير في جهود إعادة إعمار كنيسة سانت غيراغوس، أنه عرف بكونه أرمنياً عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره، وتحديداً بعد وفاة والده. في ذلك الوقت، أخبره شيوخ القرية أن العائلة التي ينتمي إليها تبنّت والده عندما كان في الرابعة من عمره، بعدما نجا من أحداث 1915. يقول: "حين علمت الأمر، شعرت بحزنٍ كبير، وخصوصاً أنني ما زلت كردياً في الثقافة والنشأة. وحتى الآن ما زالت مسلماً لكنني أرمني وهذا ما أشعر به. لذلك عمدت إلى تغيير اسمي إلى أرمين، وأعدت لقب العائلة بعدما بحثت في الأرشيف العثماني عن جذوري. يضيف: "تحت كل حجر في دياربكر، ستجد تاريخاً أرمنياً. تعلمت اللغة الأرمنية على الرغم من معارضة زوجتي التي باتت تخاف على أولادي من التحوّل إلى المسيحية". ويؤكد مسؤولون محليون في البلدية أن تعداد الأرمن لا يتجاوز الـ 300 شخص.
ولا يتوقف تواجد الأرمن على مدينة دياربكر. بل تبنّى بعضهم، وسط الأناضول، المذهب العلوي البكداشي، وبدأوا العودة إلى جذورهم. يؤكد ميران بيرغيج غول تكين أن عائلته حمت نفسها من أحداث عام 1915، من خلال اعتنقاء المذهب العلوي. لكن بعد فترة، تشرّد أفراد العائلة بعد القمع الذي تعرضت له العشائر العلوية في منطقة تونجلي ـ ديرسيم عام 1937 ما أدى إلى مقتل بعض أفراد العائلة وتهجير آخرين. وبعد عشر سنوات عادوا إلى المدينة، واتخذوا أسماء إسلامية، وصار اسمه أبراهام إبراهيم.
يؤكد بيرغيج أن عائلته، على الرغم من اعتناقها المذهب العلوي أمام الآخرين، إلا أنها حاولت الحفاظ على العادات الأرمنية في المنزل. يقول: "عندما كنت أذهب إلى المدرسة الابتدائية، كنت أعرف أنني أرمني. لكن لم أعرف معنى أن تملك ثقافة أو ديناً مختلفين". يضيف: "في عيد الفصح، كانت أمي تقدم لنا البيض الملوّن، ولم تكن تخبرنا أن هذه عادات مسيحية. كانت عائلتي تستمع إلى راديو يرفان، إلى أن عرف بعض الجيران في القرية بذلك، واشتكوا علينا، ما اضطرنا إلى التوقف عن الأمر".
ويوضح بيرغيج إلى أنه بدأ يفكّر في هويته الأرمنية في عمر الثامنة عشر. يقول: "كان لدي أصدقاء أرمن، ولم أملك ما يمكن قراءته عن هذا التراث. وبعدما أصبحت في سن الثامنة والأربعين، حسمت قراري، وتعمّدت وابني، وغيرت اسمي من صلاح الدين إلى ميران بيرغيج".
من جهتها، تقول يونجا دميرجي أوغلو من ديرسيم (30عاماً)، والتي غيرت اسمها إلى ليا، إن والدها كان موظفاً حكومياً. "لذلك، أخفت عائلتي أصولها المسيحية. وعندما كنا نقول إننا من ديرسيم، كان الجميع يظن أننا علويون. كنا نذهب إلى الكنيسة من دون أن يعلم أحد من أصدقائنا وجيراننا، ليتغير الأمر بعد انتقالنا إلى إسطنبول. في وقت لاحق، التحقنا بدروس دينية لمدة ستة أشهر، ثم تعمّدنا".
اقرأ أيضاً: الأرمن... تجار إسطنبول البسطاء