قبل نحو أربع سنوات، في أغسطس/ آب 2011، اندلعت في الجنوب التونسي، وتحديداً في معتمدية جبنيانة في محافظة صفاقس، مواجهات عنيفة ليس بين الأمن والأهالي كما العادة، إنّما في ما بين أهالي المعتمدية نفسها.. ما بين منطقة المساترية ومنطقة جبنيانة. وقد استخدمت في هذه الاشتباكات، التي أسفرت عن أكثر من 40 مصاباً بجروح متفاوتة، أسلحة نارية (بنادق صيد).
استمرّت الاشتباكات والمواجهات على أثر هذه الحادثة نحو ثلاثة أشهر، ما بين عرشَين (قبيلتَين) من منطقة واحدة. وهو الأمر الذي أظهر بعد الثورة أنّ الخلافات العروشيّة (القبليّة) في تونس لم تختفِ، ولم يُصَر إلى القضاء عليها نهائياً.
وكما هي حال معظم المجتمعات العربية، كان المجتمع التونسي مجتمعاً قبلياً. لكن الاستعمار ساعد على تكتّل المجموعات والقبائل لتواجه المستعمر. ومع تأسيس دولة الاستقلال في عهد الحبيب بورقيبة، ظنّ التونسيون أنّ الخلافات الجهوية والقبلية انتهت. لكن مثل هذه الأحداث التي تندلع من حين إلى آخر في البلاد، تؤكد أن تلك الخلافات هي إرث تاريخي.
أحداث أخرى سجّلت في خلال السنوات الأربع المنصرمة. وعلى أثر إحداها، خرج مئات المتظاهرين في مسيرة سلمية احتجاجاً على تنامي النعرات القبلية في عدد من مناطق المحافظة. وقد رفع في خلالها المتظاهرون من نقابيين وممثلين عن أحزاب سياسية وناشطين حقوقيين، شعار "تونس جمهورية لا عروشية لا قبلية"، وشعارات أخرى تعبّر عن تمسكهم بقيم الجمهورية والوحدة الوطنية الرافضة لتكريس القبلية وتغذيتها.
وكانت محافظة قفصة قد شهدت منذ بداية عام 2011 صدامات دامية عدّة في ما بين مجموعات من الأهالي في مناطق جنوبية عديدة. ويوضح المحامي محمّد فيصل الجدلاوي (ابن المحافظة)، أنّ تلك المواجهات خلّفت أضراراً مادية كبيرة من جرّاء أعمال النهب والحرق والتخريب، بالإضافة إلى الخسائر البشرية. كذلك أدّت إلى توقيف عدد لا بأس به من المتورطين.
ويشرح الباحث في علم الاجتماع طارق بلحاج محمد أن "للجهوية والقبلية أسباباً تاريخية وثقافية وسياسية. بعد الاستقلال كان التوجه نحو تعويض الانتماء العائلي والقبلي والجهوي بالانتماء الوطني. لكن ذلك لم يقضِ على النعرات الجهوية والقبلية، إذ أتت عملية التحديث إجبارية ولم ينخرط فيها كل المواطنين طواعية".
يضيف أنه "بعد 60 عاماً من التحرير، لم تُرْسَ عدالة اجتماعية تجعل الناس يتجاوزون الانتماءات الضيقة وينخرطون في الدولة". ويشير إلى أنه "في ظل ضعف الدولة والانفلات الاجتماعي والسياسي، يعود الفرد إلى الانتماء العائلي أو القبلي الذي يمكن أن يحميه من المخاطر".
من جهة أخرى، يشدّد بلحاج محمد على أنّ "النعرات الجهوية والقبلية غالباً ما تكون بفعل فاعل من أجل مصلحة ضيقة، وغالباً ما يكون الفاعل سياسياً يتاجر بغرائز الناس وآمالهم. وهو ما حصل في الحملات الانتخابية التي قامت على المنطق الجهوي وحشد الرأي العام والأصوات، حتى ولو أتى ذلك عبر إثارة النعرات الجهوية والقبلية".
وفي السياق، يرى بلحاج محمد أن "التركيبة الاجتماعية والنفسية والثقافية للجنوب التونسي، تشكّل تربة خصبة للاستثمار في زرع التوتر والدفع نحو التصعيد". ويُعيد أسباب الاحتقان الخطير وأحداث العنف في جمنة والقلعة، إلى "غياب الدولة تاريخياً في المناطق الجنوبية، وفشلها في صهر مختلف الفئات الاجتماعية في نسيج وطني موحّد. لذا بقيت جيوب القبلية تنشط في غفلة من السلطة".
من جهته، يحذّر المؤرّخ البشير العربي من أنّ "العروشية هي من أخطر الظواهر المهدّدة لتماسك المجتمع. والعراقيل التنموية التي تخبرها بعض الجهات، هي نتيجة رواسب قبلية خلنا أنّها انتهت".
وحول الدوافع الاجتماعية التي أدّت إلى تفجر الوضع في عديد من المناطق، يوضح العربي أنّها "غياب العدالة الاجتماعية، لا سيما على مستوى أوضاع عمال المناجم في الجنوب التونسي، وبروز قبائل مضطهدة وأخرى محتكرة للثروة والمناصب والعمل". ويشير إلى أيادٍ خفيّة "حاولت التحريض على إثارة هذه النعرات التي دفعت إلى أعلى درجات الاحتقان، وإلى القتل الذي أفضى بدوره إلى التنكيل والتمثيل بالجثث". يضيف أنّ "العروشية أعادت إنتاج نفسها بتحضّر زائف. حتى في المدن الكبرى كتونس العاصمة، لدينا عروش"، مشدداً على أنّ "امتصاص هذا الاحتقان لا يكون إلا بثورة ثقافية تطهّر الأذهان من الرواسب".
اقرأ أيضاً: عنف أسري يحاصر أطفال تونس