"غير معقول". "خارج المألوف". عبارتان مركّبتان تدلان على تدجين، تعاني منه مختلف المجتمعات البشرية. فالمعقول ببساطة هو ما نعقله تبعاً لثقافتنا وخبرتنا ومدى انفتاحنا على الآخرين وتجاربهم وعلى النظريات العلمية والفلسفية والاجتماعية المختلفة. فإذا برزت أمامنا وضعية ما حتى لو كانت حقيقة ويقيناً لدى آخرين بدت "غير معقولة" بالنسبة لنا، أي تبعاً لميزاننا المعرفي.
يبني كثيرون حقائقهم المعرفية على هذا الأساس. يعقلون ما يألفون. فما كان خارج المألوف بات، وبشكل تلقائي، غير معقول. تتساقط هذه الجدران، يوماً بعد يوم، تبعاً لكلّ اختراع واكتشاف. ولعلّ التسارع الذي تشهده ثورة الاتصالات والمعلومات بالترافق مع الطرح الاستهلاكي- الرأسمالي لإنتاجاتها في الأسواق وإقبال الشعوب بأكملها عليها يساهم، أكثر من أيّ وقت، في إسقاط تلك الجدران المعرفية. يأتي ذلك خصوصاً مع ما يشهده العالم من بضائع مقلدة في شتى المجالات، تسهّل مهمة تحويل ما كان يعتبر فترة طويلة "سحراً"، إلى علم وواقع لدى الفئات الأفقر التي استبعدها التاريخ طويلاً عن المشاركة الفعالة في صنع ثوراته.
بات سكان العالم يعقلون أموراً أكثر بكثير من السابق. وكلّ عام يعقلون أموراً أكثر، لكنّهم مع ذلك ما زالوا أسرى عدم القدرة على عقل ما يخرج عن مألوفهم.
كي لا نعود إلى غاليلو وكوبرنيكوس، فلنأخذ قضية اشتهرت في الأوساط العلمية في السنوات العشرين الأخيرة، وهي الاستنساخ. من تقنياته الأشهر ما يسلك مسلكاً آخر لإنتاج الكائنات الحية غير ما ألفه البشر. هذه التقنية تستخدم خلايا جسدية لا جنسية من أجل خلق كائن جديد يحمل الصفات الوراثية نفسها.
منذ تسعينات القرن الماضي والجدل مستمر، لكنّه متفاوت ما بين مجتمع وآخر وما بين فرد وآخر. بعضهم وصل إلى مستوى "أخلاقيات الاستنساخ"، أي أنّه سلّم بوجوده، لكنّه يسعى إلى تحريمه حفاظاً على الشكل البشري- الاجتماعي الذي ألفه. آخرون ينكرون بالمطلق احتماليته أساساً. ويستندون في ذلك إلى كثير من الأصول الروحانية، وحتى الطبية والعلمية التقليدية. لكنّ الاستنساخ "معقول" في كونه واقعاً لدى آخرين. وهؤلاء يطورون في تقنياته يوماً بعد يوم.
قضية أبسط بكثير. شاب على دراجة نارية، يضع نظارة طبية. مرت دراجة أخرى عليها شابان، ولسبب ما سخرا منه طويلاً ولم يتوقعا أن يردّ بشيء. فمن "غير المعقول" ذلك، تبعاً لمألوفهما الذي يفترض جبنه وضعفه. ازدحم السير. علق الساخران خلف سيارة. نزل الشاب وضربهما ضرباً مبرحاً حتى بات رده "معقولاً" لديهما، مهما رددا في بالهما وهما تحت رحمة اللكمات والركلات: "غير معقول".
اقرأ أيضاً: لعبة الحياة تنتهي