ينتظر أهالي المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، موعد زيارتهم لأبنائهم. وعلى الرغم من تذمّرهم أحياناً من إجراءات الاحتلال ومن الطقس البارد هذه الأيام، إلا أن تلك الزيارات تفرّج عنهم.
لا يهتم أهالي الأسرى الفلسطينيين بمتابعة أخبار الطقس على مواقع الأرصاد الجوية، مثلما يفعل الموظفون وطلبة الجامعات وتلاميذ المدارس الذين يحظون بإجازة عندما تسوء حالة الطقس. حتى تساقط الثلوج لا يثنيهم عن تهيئة أنفسهم بشكل جيد لزيارة موعودة لابنهم القابع في سجون المحتل خلف قضبانه. لكن مع البرد الشديد خلال فصل الشتاء، تزداد معاناة أهالي الأسرى عند زيارة أبنائهم، لا سيما مع ممارسات الاحتلال المتعبة على الحواجز وخلال الزيارة.
عند الرابعة والنصف فجراً بتوقيت القدس المحتلة من يوم الإثنين الماضي، بينما كانت الأمطار تهطل غزيرة ودرجات الحرارة متدنية جداً، كانت صابرين فوزي بشكار قد أنهت إعدادها أغراضها وما تحمله من حاجيات بسيطة، تأمل أن يسمح لها جنود الاحتلال بإدخالها لشقيقها الذي مضى على احتجازه خلف قضبان الاحتلال 14 عاماً.
في ذلك الصباح، كانت بشكار وهي من مخيم عسكر للاجئين الفلسطينيين في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية المحتلة، على موعد مع شقيقها الأسير عبد الرحمن في سجن ريمون العسكري الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. تروي لـ "العربي الجديد": "خرجنا من المخيم مع صلاة الصبح. لم نصلّ الفجر خشية تأخرنا عن موعد انطلاق الحافلات. عند موقف المركبات العمومية شرق مدينة نابلس، تجمّع نحو مائة من أهالي الأسرى، وافق الاحتلال الإسرائيلي على إصدار تصاريح لهم لزيارة أبنائهم في سجون الاحتلال".
مرحلة تفتيش أولى
وتكمل بشكار سردها: "انطلقت بنا حافلتان تابعتان للجنة الدولية للصليب الأحمر، باتجاه حاجز الطيبة العسكري المنصوب على أراضي الفلسطينيين غرب مدينة طولكرم. نزلنا من الحافلة، فيما كان الطقس بارداً والأمطار تنزل بشكل متقطع. في الطابور الطويل، اصطفَ أهالي الأسرى وعمّال من الضفة يشتغلون في الأراضي الفلسطينية المحتلة. هناك، نتعرض في كل زيارة إلى تفتيش دقيق من قبل مجنّدات إسرائيليات (نحن النساء)، يضعننا في غرف خاصة تحوي جهازاً كاشفاً للحديد، يرنّ إذا كنّا نحمل قطع نقود صغيرة. وإذا رنّ بسبب أزرار الملابس، يجبرننا على خلعها. يردن التأكد من عدم حيازتنا أدوات". ويستمر الانتظار على حاجز الطيبة بحسب ما تقول بشكار، "وفقاً لظروف الأزمة، وامتثالاً لمزاج جنود الاحتلال. أحياناً يؤخّروننا للتسلية، أو لأن أحد الداخلين رفض خلع ملابسه ولم يوافق على ما طلبه الجنود الذين يحاولون إذلال الفلسطينيين بطلباتهم المقيتة".
مذ يخلع جنود الاحتلال باب منزل فلسطيني ويبعثرون محتوياته ويخرجون منه آسرين أحد أفراد العائلة، تبدأ معاناة الأهالي في متابعة ملف ابنهم، ومعرفة مكان احتجازه (في أيّ سجن وأيّ قسم وزنزانة)، وانتظار انتهاء التحقيق، وتعيين محام خاص به لمتابعة القضية، بالإضافة إلى الشعور بالحزن على الاعتقال والتفكير في الظروف التي يمرّ بها الأسير. وينتظر أهالي الأسرى على أحر من الجمر موافقة الاحتلال الإسرائيلي إصدار تصاريح تسمح لهم زيارة أبنائهم، ما يطفئ نارهم ولو بشكل محدود ولو تحت أعين ومراقبة السجان.
معاناة مشتركة
تتشابه زيارات الأهالي لأبنائهم، إذ يتشاركون المعاناة والتعب الجسدي والإنهاك الشديد. بعد اجتيازهم حاجز الطيبة، "تبدأ المسافة بالتقلص أكثر، وتقترب لحظة رؤية الحبيب المعتقل"، مثلما تقول مهدية حمدان لـ"العربي الجديد". رحلتها كانت يوم الأربعاء الماضي، إلى سجن مجدو العسكري حيث يعتقل ابنها وليد.
حمدان من قرية عصيرة القبلية جنوبي مدينة نابلس، وابنها المعتقل يقبع في سجن مجدو منذ نحو سنتين من دون أن يصدر أي حكم في حقه. تقول: "استغرق وصولنا إلى محيط السجن، نحو ساعة ونصف الساعة. فتحوا بوابة السجن، وطلبوا منا الانتظار في ساحة مفتوحة مغطية بألواح حديدية ومفتوحة من جوانبها الأربعة". تضيف: "على الرغم من ظروف البرد القارس، إلا أننا لم نكن نفكر إلا برؤية أحبابنا داخل السجن. ربما نحن نستطيع توفير التدفئة لأنفسنا، لكن ظروف المعتقلين تختلف وهم يشعرون بالبرد أكثر منا". وتقسم: "والله لو صحّ لي كل يوم أزوره، أذهب حتى لو كانت الدنيا ثلج".
اقرأ أيضاً: "اليوم العالمي للتضامن مع فلسطين".. هبة شعبية ويأس دولي
الملابس بشروط
كانت حمدان قد أحضرت معها قمصاناً شتوية وبناطيل رياضية سميكة لابنها. لكن جنود الاحتلال أو الذين يعدّون عناصر مصلحة السجون "الشاباص"، منعوها من إدخالها لعدم وجود تصريح لإدخال الملابس. حاولت إقناعهم، قائلة: "دعونا ندخل الأواعي (الملابس). الدنيا برد، وليدفئ أولادنا أنفسهم". لكنهم رفضوا بكلمة واحدة: "ممنوع". من جهتها، لفتت والدة الأسير عبد الرحمن بشكار أيضاً إلى أن "منذ 14 عاماً وابني في السجن، لم يلبس كنزة صوف تحميه من البرد".
تفتيش آخر
بعدما يقضي أهالي الأسرى نحو ساعة كاملة في الساحة الخارجية، يبدأ الجنود بالمناداة عليهم وقد قسّموهم أفواجاً. وتقول حمدان: "وصلنا الصالة الداخلية بعد إجراءات تفتيش متعبة، كما على حاجز الطيبة. إذا رنّ الجهاز، تطلب المجندات من النساء خلع ملابسهن داخل غرف صغيرة، ويعطينهن ملابس خفيفة كتلك المخصصة للصلاة".
45 دقيقة فقط
الأسير حسين نصار من قرية مادما جنوبي نابلس، محكوم عليه بالسجن المؤبد. تشكو والدته قائلة: "لا تكفينا 45 دقيقة كلام مع ابننا. نحن نمشي خمس ساعات في الطريق ليعطونا فترة قصيرة". وتخبر أن "في مرة، بعد انتهاء المقابلة، صرت أغني: يا باب السجن ريتك خرابة ياللي فرقت بيني وما بين احبابي. وعندما سمعني الجنود، جاؤوا وأخرجوني من القاعة. وكان حسين يقترب من الزجاج الفاصل بيني وبينه ويحاول أن يسمع ما أقول".
أما غادة نصار (12 عاماً) وهي ابنة حسين، فتعبر عن سعادتها وهي تتحدث عن زيارة والدها قبل شهر. لكنها تشدد على أنها تمقت الانتظار والتفتيش والتدقيق في شهادات الميلاد. تقول: "بعد انتهاء الزيارة، ننتظر الأفواج الثانية من أهالي الأسرى الذين كانوا يرافقوننا في الحافلة، حتى ينهوا زيارتهم. وهذا من حقهم. هم انتظرونا". تضيف: "نحن نتعب أحياناً في الزيارة، لكن لا مشكلة. المهم أن نرى بابا ونطمئن عليه". وفي الغالب، لا يصل أهالي الأسرى إلى منازلهم إلا في ساعات متأخرة من الليل.
حسام الشخشير هو المسؤول عن برنامج زيارات الأسرى في مدينة نابلس. يقول لـ "العربي الجديد" إن "زيارات الأسبوع الماضي تمّت بشكل جيّد، ولم يُبلّغ عن أي عوائق. سار البرنامج كما المخطط. الصليب الأحمر يؤمن حافلات مكيّفة لنقل الأهالي بكرامة واحترام". ويلفت إلى أن عدداً قليلاً من أهالي الأسرى اعتذر عن الزيارة بسبب الأحوال الجوية، على أن يعوّضوها في الأيام المقبلة.
يوضح الشخشير أن إدارة مصلحة سجون الاحتلال تسمح بزيارة الأسير مرتين في الشهر. وفي بدايته ونهايته يكون الاكتظاظ كبيراً. كذلك تسمح بإدخال الملابس للأسرى مرتين في العام، وفق شروط. يسمح بإدخال اللونين البني والأسود فقط، ويمنع إدخال الملابس السميكة وتلك التي تحوي أشرطة. إلى ذلك، يصدر الاحتلال تصاريح زيارة لأقارب الأسير من الدرجة الأولى، والإجراءات من خلال مكاتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر. ويشرف مكتب الصليب الأحمر في مدينة نابلس على زيارات أهالي الأسرى في مدينتي قلقيلية وسلفيت شمال الضفة.
وتُعدّ زيارة الأسير مشقّة يعانيها الأهالي، فممارسات الاحتلال بحقهم تكفي لتكون شاهداً على سياسة العقاب الجماعي الذي يمارسه بحق عوائل الأسرى كذلك عوائل الشهداء وكل من يفكر في العمل الوطني ضده. وتأتي الظروف المناخية، لا سيما البرد الشديد خلال فصل الشتاء، لتزيد من صعوبة السفر وتجعل الطريق والانتظار أصعب وأقسى، خصوصاً على الأطفال والمسنين.
وتبقى معاناة أهالي الأسرى معلقة إلى حين الإفراج عن أبنائهم، علماً أن كثيرين ينفّذون أحكاماً بالسجن لفترات طويلة. لكن هذه الزيارات تبقى على الرغم من الظروف القاسية، كالقشة التي يتعلق بها الغريق كما يقول المثلي الشعبي. إلى ذلك، فإن الذين ينفّذون أحكاماً شارفت مدّتها على الانتهاء، فغالباً ما يتشاورون مع أهلهم خلال الزيارات حول مراسم الاستقبال يوم خروجهم إلى الحرية.
اقرأ أيضاً: مدارس القدس.. الاحتلال يواصل أسرلة المناهج