الأمطار تُغرق السماء. ملعب "حبيب أبي شهلا" الرملي بات وحولاً، والبرك تتوزع أرجاءه. أنا وعبّاس ومعنا علي نعرف جيداً هذه الحال. ملاعبنا كلها رملية وفي صيفها أو شتائها لم نعتد يوماً مغادرة الميدان. المياه تغمرنا وتتواءم مع جلدنا ولا نغادر. البرد يصنع مهرجانات في عظمنا ولا نغادر. الوحول تبدّل هيئتنا وتغطي على ألواننا ونستمر إلى النهاية، حتى يكاد التعب يتعب منّا.
ذلك النهار مختلف. لم نكن على أرض الملعب، بل نشاهد فريقنا المفضل (التضامن) يلاعب فريق الأرز. ونحن الاثنين نغرق على المدرجات الصغيرة التي لا تختلف كثيراً عن طبيعة الملعب نفسه. مياه من فوق ووحول من تحت.
كنا وحدنا تقريباً على المدرجات. لا يكاد صوت هتافنا يصل إلى اللاعبين. مع ذلك، كنا نؤمن أنه يصل بالرغم من أصوات الرعود والأمطار. نصرخ: "والريح بتصفر: تضامن.. عالصخر بنحفر: تضامن". ويفوز التضامن خارج أرضه، بفضلنا كما نحبّ أن نظنّ.
يومها، ونحن ما زلنا نعيش الأجواء الأخيرة للحرب عام 1991، كان عبّاس مزهواً بأول راتب ثابت يتقاضاه من عمله في مشغل الخياطة. الفتى الأشقر الذي لم يتعبه الشغل اليومي مهما كان، اشترى من راتبه الأول ذاك بيجامتين رياضيتين، واحدة له سوداء بخطوط زيتية، وواحدة لي - أنا أخيه - الذي في العاشرة ويصغره بثلاث سنوات ونصف، واحدة أخرى سوداء بخطوط زرقاء.
كان يخطط لما هو أبعد. فاليوم يوم المباراة. انتظرته طويلاً وجاء. وفي البوسطة "الدودج" كنا نشعر أنّ الطريق لا تنتهي أبداً. يقودني عبّاس وأنا فرح بهديته وبمشواره. وبالرغم من عمره الذي لم يكمل الرابعة عشرة كان رجلاً حقيقياً. هي صفة لطالما لازمته وترصّعت كلّ مرة بمعانٍ أرقى للرجولة والإنسانية معاً. طيبة قلبه، وصفاء سريرته، ومحبة الناس له، ودفاعه عن أي مظلوم، ومساعدته أي محتاج، وكرمه، كلّها صفات لازمته بالفطرة. هي تلقائية لديه لا تحتاج إلى قرار أو حسابات.
في منطقة الكولا كانت الأمطار قد بدأت جولتها الأشدّ. ركضنا معاً. كانت أسرع مرة نركض فيها. يسكننا نزوعان: الهرب من الأمطار القاسية والوصول إلى فريقنا المحبب قبل بداية المباراة. وننجح.
نجحنا في كلّ مرة مهما كانت الظروف قاسية. بالنسبة إلينا، كان كلّ شيء قضية. ومن يغادر قضيته إلى نقيضها ليس منا.
ومنذ ذلك اليوم، وقبله وبعده، ونحن نعلم - مع بقية أشقائنا - ما يجمعنا وما نختلف فيه. كلٌّ منا مختلف عن الآخر، لكنّ أيّاً منّا لا يحاول تغيير ما في الآخر. التحدّي شريكنا، والذهاب إلى النهاية في كلّ شيء، مهما كانت العقبات، توأمنا.
هو ذهب اليوم إلى النهاية. تألّم ولم يستسلم. لكنّ التحدي كان أكبر منّا جميعاً، وأوصلنا إلى نهاية كلّ النهايات.
وداعاً عبّاس.