تغزو شوارع القاهرة حالياً وقبل أيام من دخول شهر رمضان، أفواج من المتسوّلين الوافدين من مختلف المحافظات، لا سيّما تلك القريبة من العاصمة، فضلاً عن عدد كبير من داخل أحيائها. ويتمركز هؤلاء خصوصاً عند إشارات المرور، وفي الشوارع الكبرى المعروفة، وفي وسائل المواصلات، وأمام المستشفيات والمساجد الكبرى، وداخل محطات الوقود، وأمام البنوك.
تختلف وسائل التسوّل ما بين ادعاء المرض والفقر، وحاجة الأطفال، والحاجة إلى نفقات الزواج، بالإضافة إلى تأليف حكايات وهمية قد تصل إلى حدّ "ابتكار" عاهة ما لكسب تعاطف الجمهور. ويعمد المتسوّلون إلى بيع علب المناديل أو إبراز شهادة وفاة العائل الوحيد أو تقديم أجزاء مطبوعة من القرآن، فضلاً عن استخدام الأطفال في تسوّلهم. وقد نشاهد نساء كثيرات يحملن أطفالاً، فيما لا يظهر منهنّ غير عيونهنّ التي ترمق المارة وتستجديهم. وأحياناً، قد يُستأجر أطفال صغار من عائلات فقيرة مقابل بدلٍ يومي.
رؤوس مدبّرة كبيرة تجنّد الأطفال والنساء للتسوّل. على سبيل المثال، ثمّة أسرة بأكملها في منطقة الشرابية (أحد أحياء القاهرة) تمتهن التسوّل في رمضان، وهي معروفة لدى الجهات الأمنية. لكنّ أحداً لا يستطيع الاقتراب من أفرادها، إذ يمثّلون قوة وهم بلطجيّة وتجّار مخدرات. ويستغلّ هؤلاء شهر رمضان، بسبب العائد المادي الكبير الذي قد يحققونه خلاله.
شهر رمضان بالنسبة إلى المتسوّلين في مصر، هو "موسم حصاد" إذ يُمكن جمع المال خلاله. هو "موسم" للذين اتخذوا منه "سبّوبة" وتجارة مربحة، بعد اللعب على مشاعر الصائمين بكلمات ودعوات ومشاهد تقشعرّ لها الأبدان. من تلك الدعوات، نذكر "إلهي تترد لك في عافيتك.. إلهي ما يحوجك لحد.. ربنا يرزقك يابني ويوسّع رزقك.. ربنا ما يرميكي في ضيقة.. يرزقك الزوج الصالح والذرية الصالحة". وهذه الكلمات تستدرّ العطف عبر العزف على وتر الشعور الديني تارة، وقد تُرفق أحياناً بأوراق تُبرَز وتتضمّن أختاماً وكلمات تفيد بأنّ حاملها لديه ظروف خاصة. بالتالي، كثيرون هم الذين يمدّون أيديهم إلى جيوبهم ليخرجوا "اللي فيه النصيب"، من أجل الحصول على صدقة رمضان.
لا تتوفّر إحصاءات رسميّة بأعداد المتسوّلين بحسب تقارير المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، لكنّ المؤكد أنّ أعدادهم في تزايد مع ارتفاع معدلات الفقر والعنف الأسري والتسرّب المدرسي. في سياق متصل، يبيّن مصدر قضائي أنّ "ثمّة أكثر من 30 ألف قضيّة تسوّل تنظر فيها محاكم القاهرة وحدها. أما الأحكام التي تصدر، فهي أحكام بالحبس تتراوح ما بين شهر مع غرامات تتراوح ما بين 100 و600 جنيه مصري". يضيف: "الغريب هو أنّ المتسوّل الذي نشاهده عاجزاً عن الحركة أو مريضاً أو مهلهل الملابس وسيئ المظهر في الطرقات والشوارع، يختلف عن المتسوّل المتهم الذي نشاهده في المحاكم. هو يعرف القانون جيداً والعقوبة المنتظرة، ويحمل أيضاً قيمة الغرامة".
في جولة لـ "العربي الجديد" على بعض أحياء القاهرة، يؤكّد كثيرون ارتفاع نسبة التوسّل خلال شهر رمضان. ولفت البعض إلى أنّ جمعيات خيرية كثيرة تساعد المحتاجين، فيما تقصد متسوّلات عديدات المنازل طلباً للمال. لكن عند إعطائهنّ مواد غذائية، يرفضنها مصرّات على المال.
"التسوّل في رمضان كابوس"، بحسب محمد عبدالله الذي يشدّد على "ضرورة أن تتدارك الدولة هذه الظاهرة السلبية الخطيرة". ويشير إلى أنّ "الأمر ازداد في هذه الأيام التي تسبق الشهر الفضيل، بطريقة غير مسبوقة. وقد وصل إلى حدّ طرق أبواب المنازل. ثمّة من يحنّ على هؤلاء بالمال، أو بأشياء أخرى. لكنّ كثيرين يرفضون كلّ ما ليس نقوداً، من قبيل المواد الغذائية وغيرها". من جهته، يرى محمد فتحي أنّ "انتشار هذه الظاهرة يعود إلى أسباب عدّة، أبرزها الفقر والبطالة. غالباً ما يترافق ضعف الدخل مع كبر حجم الأسرة، بالإضافة إلى غلاء المعيشة". يضيف أنّ "ثمّة من يتّخذها مهنة، لما تدرّه عليه من مال من دون تعب". ويعيد ارتفاع عدد المتسوّلين في رمضان إلى "محاولة هؤلاء استغلال البعد الروحي والتضامني لهذا الشهر. لذلك تراهم متمركزين أمام المساجد". أمّا أحمد عبد السلام وهو سائق، فيقول بضرورة وضع "قوانين وتشريعات لمواجهة الظاهرة الخطيرة التي أصبحت سمة من سمات الشارع المصري، خصوصاً في رمضان".
سلوك منحرف
تؤكّد الخبيرة في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الدكتورة عزّة كريم على أنّ "التسوّل سلوك منحرف، كما أنّه يضرّ بالاقتصاد القومي". وتشرح أنّ "المتسوّلين يمثّلون طاقة بشرية مهدرة وغير منتجة، بل تصل في بعض الأحيان إلى تعطيل الآخرين". أمّا تزايد ظاهرة التسوّل في بعض المناسبات مثل شهر رمضان، فهو بالنسبة إليها "مظهراً غير حضاري. وأكثر دول العالم اهتمتّ في سنّ تشريعات لمحاربة التسوّل، فهذه ظاهرة اجتماعية يمارسها الفرد هرباً من مسؤوليات الحياة، خصوصاً من لا يملك الرغبة في مزاولة عمل شريف يدرّ عليه دخلاً يحفظ له ماء وجهه. وترى المتسوّل يظهر مرّة بمظهر المريض ومرّة بمظهر العاجز عن العمل". وتشير كريم إلى أنّ "عدم تحرّك الدولة الحكومة لمواجهة المشاهد التي تتكرّر يومياً أمام المساجد وفي الشوارع والميادين ووسائل النقل المختلفة، جعل التسوّل مهنة يلجأ إليها كثيرون".
القانون لا يحلّ المشكلة
في سياق متّصل، يوضح المحامي محمد عبد العزيز أنّ "المتسوّلين بأكثرهم يملكون أراض وسيارات ويتزوّجون أكثر من مرّة. وثمّة مجموعات تمارس التسوّل تحت مظلّة عائلات إجرامية، فتتخذه طريقاً للسرقة أو خطف الأطفال أو النشل". ويقول إنّ "القانون فشل في معالجة هذه الظاهرة، خصوصاً أنّ العقوبات لا تتناسب مع طبيعة الجرم وانتشاره"، واصفاً التسوّل بأنّه "كارثة يترتب عليها ارتفاع معدّل الجريمة، لا سيّما أنّ أكثر المتسوّلين هم من الشباب. وبمجرّد حصولهم على المال، من الممكن أن يتّجهوا إلى الإدمان". ويطالب عبد العزيز الحكومة بالتحرّك، "إذ إنّ ذلك ينقل صورة سيّئة لمصر في الخارج. والتسوّل ينتشر في الأحياء الراقية التي يقطنها عرب وأجانب".
من جهته، يشدّد أستاذ العقيدة في جامعة الأزهر الدكتور أحمد عبد الرحيم السائح على أنّ "التسوّل ظاهرة يرفضها الإسلام. ومن يتسوّل بالسور والآيات القرآنية، فإنّ إثمه يتعاظم لأنّ ذلك امتهان بكلام الله". ويطالب "الجميع بعدم إعطاء أيّ متسوّل المال، والاتجاه بتلك الأموال إلى أماكنها الصحيحة، سواء الجمعيات الخيرية التي تنفق على الفقراء، أو المستشفيات، أو أشخاص معروفين بأنّ حالتهم ضنك وأقارب حتى لا تذهب الصدقات إلى محترفي التسوّل. فكثيرون يتّخذون التسوّل تجارة".