"دُهش الهولنديّون لدى رؤيتهم جنوداً يرتدون الجلابيب والنعال على الرغم من الظروف المناخية القاسية، وقد جاؤوا للدفاع عنهم ضد المحتل النازي. واعترافاً بتضحيات المغاربة، كان القرويّون يعطون هؤلاء الجنود وجبات غذائية، فيما كان المغاربة يشاركونهم أكلاتهم الشعبية".
بعد سنوات طويلة، توصّل باحثون هولنديّون ومغاربة إلى هذه الحقيقة. اليوم هو ذكرى تحرير هولندا من الاحتلال الألماني النازي خلال الحرب العالمية الثانية. قبل يوم من هذا التاريخ، تتذكر هولندا أولئك الذين سقطوا خلال معارك التحرير. في هذا اليوم، تُكرّم الدولة قدامى المحاربين. على الرغم من أنّ المغاربة والجنود المتحدرين من دول شمال أفريقيا كانت لهم تضحياتهم خلال حرب تحرير هولندا، إلا أنه لم يعترف بها أو تقدر إلا في وقت متأخر. ربّما يتعلّق الأمر بأنّ مشاركة الجنود المغاربة كانت تحت مظلة القوات الفرنسية المعادية للفاشية، أو لأنهم تشتتوا بين محاور القتال في القرى الحدودية والمستشفيات والمعتقلات النازية، أو بتكتم من بقي منهم حياً عن المشاركة في المعارك خلال الحرب العالمية الثانية.
وكانت وثائق تعود لمنظّمة الصليب الأحمر الهولندي قد اكتُشفت في أحد المستودعات في مستشفى في مدينة ماستريخت عام 2011، قد بيّنت مشاركة مجموعة من المقاتلين "المجهولين" في الحرب، بالإضافة إلى أسرهم في المعتقلات النازية. إذاً، قاتل آلاف الجنود المغاربة في الجيش الفرنسي ضد الألمان خلال شهر مايو/ أيار عام 1940. ساعد هؤلاء في الدفاع عن هولندا، وساهموا لاحقاً في تحرير جنوب أوروبا، بحسب بعض الأصوات الهولندية التي بدأت تظهر.
كذلك، حارب الجنود المغاربة في مقاطعة زيلاند جنوب غرب البلاد، من ضمن القوات الفرنسية التي شاركت مع القوات الأميركية والبريطانية في تحرير المدينة ومينائها، وقد سقط 19 جندياً مغربياً ما زالت رفاتهم في مقبرة عسكرية إلى جانب رفات جنود آخرين من قوات الحلفاء.
إعادة إعمار
الجالية المغربية، التي تتجاوز بحسب بعض التقديرات الأربعمائة ألف في هولندا، نشطت خلال السنوات الطويلة الماضية، قبل اكتشاف وثائق الصليب الأحمر في ماستريخت، من أجل الاعتراف بتضحيات الجنود والعمال المغاربة في أثناء الحرب، بالإضافة إلى مشاركتهم في إعادة إعمار البلاد بعد كل ما تعرضت له من دمار، خصوصاً مدينة روتردام، التي سويت بالأرض. ويقول باحثون مغاربة وهولنديون إنّ الهولنديين دهشوا لوجود جنود يرتدون جلابيب ونعالاً في ظروف مناخية قاسية.
في الكتاب، الذي وضعه كلّ من الباحث والكاتب المغربي، محمد أشبهون، والكاتب الهولندي، يان دروك تاونر، والذي تناول تضحيات الجنود المغاربة خلال الحرب، جاء: "في الوقت الذي أعلنت فيه هولندا استسلامها أمام الزحف النازي، الذي كان يقوده أدولف هتلر في مايو/ أيار عام 1940، كان الجنود المغاربة يقاومون بشراسة في زيلاند". هذه الحقائق والشهادات الموثّقة التي عرضها الكتاب تبعها اعتراف رسمي بتلك الجهود، من خلال ممثّلين رسميّين عن الجالية والحكومة والجيش في المغرب، خلال مشاركتهم في احتفالات هولندا بيوم التحرير.
وبعيداً عن هذا الدور، كان مغاربة قد انخرطوا في مختلف المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية والإعلامية في هولندا. تجدر الإشارة إلى أنّ الجالية المغربية وصلت إلى هولندا على مرحلتين، الأولى في منتصف ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والثانية في الثمانينيات. وتعدّ جالية عاملة استفادت من فرص التعليم والتجارة في هولندا، وقد زاد عددها بعد إصدار قانون لمّ شمل العائلات.
مغاربة أقل
ربّما يشكّل الاعتراف ضمانة مجتمعية وقانونية في وجه المدّ اليميني المعادي للأجانب والعرب، والمغاربة على وجه الخصوص، بعدما دعا النائب اليميني، خيرت فيلدرز، قبل فترة إلى "مغاربة أقل" في هولندا، وهو ما أدّى إلى ملاحقته قضائياً، عاد حزبه لطرح موضوع "مشكلة المغاربة" في البرلمان الهولندي، مما لاقى استهجاناً من قبل نواب ينتمون إلى أحزاب الائتلاف الحاكم واليسار. يسعى حزب "الحرية" الذي يتزعّمه فيلدرز إلى وضع الجالية المغربية في قفص الاتهام، من خلال تجريمها وتحميلها مسؤولية أخطاء بعض الأفراد من أصل مغربي.
في المقابل، ترفض شريحة واسعة من الهولنديّين توجهات اليمين المتطرف. أيضاً، لا تتردّد "نخبة" الجالية المغربية في التصدي للخطاب المتطرف والتمييز والاستبعاد الاجتماعي والثقافي والبطالة، مع العمل على عزل الأصوات المتطرفة، والمطالبة بمساعدة المنحرفين والمتورطين في جنح، والعمل على إعادة دمجهم في المجتمع.
إلى ذلك، ما بنته الجالية المغربية من سمعة حسنة في هولندا، هي التي ساهمت في الدفاع عن البلد، بالإضافة إلى المشاركة في دورتها الاقتصادية، يبدوان جليَّين ويساعدانها على الوقوف في وجه طروحات اليمين. لطالما عُرفت هذه الجالية بالتسامح والقدرة على الاندماج في المجتمع الهولندي على مختلف الأصعدة. كذلك، عملت على تنظيم صفوفها في عدد من المؤسسات والجمعيات والشركات التي تتابع أحوال الجالية دينياً وثقافياً واجتماعياً. هؤلاء يولون أهمية للهوية والثقافة المغربية مع ضرورة الانتماء إلى المجتمع الهولندي.
هؤلاء يخوضون معركة الحقوق والانتماء على جبهتين داخليتين. وتدعم مؤسسات وجمعيات عدداً من المشاريع الاقتصادية والخيرية في عموم المغرب، وتبني جسوراً بين وطنها الاختياري ووطنها الأصلي، وتكافح لمناهضة الخطاب العنصري ضدها بالتضامن مع مكونات المجتمع في هولندا، وتطالب بحقوق متقاعديها الذين كافحوا من أجل الدفاع عن البلاد خلال الحرب العالمية وبعدها. هذه القضية تمثل أولوية للهولنديين من أصل مغربي، وقد استدعت تدخلاً حكومياً من أجل ضمان حقوق الجالية في هولندا.