قسّم ابن خلدون الفضاء العربي إلى مشرق أسماه "أرض البيان"، نسبة إلى سلطة البلاغة في الشعر والنص المقدس في الفقه، خصوصاً الحديث النبوي، ومغرب أسماه "أرض البرهان" نسبة إلى التصوف وفلسفة الولاية الربانية التي جعلت نسيجه العام محكوماً بتبجيل الزوايا القرآنية والأولياء الصالحين أحياء وأمواتاً.
في المغرب الأوسط، أي الجزائر، يكاد لا يخلو تجمّع سكاني مهما كان حجمه من ضريح لولي صالح، عادة ما يُنسب إليه السكان فيسمّون "أولاد سيدي فلان". قد يكون ملحقًا بزاوية أو مقبرة تحمل اسمه، ويقصده الناس المتشبعون بثقافة التبرّك وطلب الإغاثة من "أولياء الله الصالحين" في مواسم معينة تسمى "الوعدة" وهي تجمّع سنوي لأتباع الشيخ، وأيضاً في مناسبات تخص الزائرين أنفسهم مثل الزواج والولادة والمرض والسفر ومباشرة مشروع تجاري أو فلاحي معين.
لم يتمكن إعراض النظام الحاكم في عهد الرئيس هواري بومدين (توفي عام 1978) عن مؤسسة الزاوية بدعوى "تبريرها الاحتلالَ الفرنسي"، ولا هجوم المد السلفي عليها بسبب ما يعتبره "نشر البدع"، من القضاء على سلطة هذه المساحات في نفوس قطاع واسع من الأهالي.
من طقوس هذه الأضرحة التي عاد إليها ألقها ونفوذها الاجتماعي والسياسي مع الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، أن يشرف على فتح أبوابها ويغلقها ويستقبل زائريها رجلٌ قد يكون من أحفاد صاحب الضريح، وقد يكون من سلالة عُرفت تاريخياً بخدمة الضريح. يسمّى "القيّم" أو "الخديم"، ويُنادى "الشيخ" أو "سيدنا". من مهامه تلقي "الزيارة" وهي هدية من زائر الضريح، على أن يعطي مانحها "البركة" في شكل قطعة قماش أخضر تسمى "الشليل" أو شمعة أو حلوى. وقد تتجاوز ذلك في الحالات التي يكون فيها الزائر صاحب مقام مهم.
في العموم، يتلقى خادم الضريح هدية نقدية تتفاوت قيمتها. فالزائرة من أجل رقية ابنها من البكاء المبالغ فيه مثلاً، غير تلك الآتية من أجل أن تحظى بمولود أصلاً. وتتنوع الهدية بين أن تكون ملابس أو ذبائح أو عسلاً أو سمناً أو زيت زيتون أو ساعة أو تمويل بناء أو عرساً أو حجاً أو عمرة.
يكشف قيمّو الأضرحة التي زارتها "العربي الجديد" عن حاجات طريفة يُقصدون من أجلها من طرف النساء والعجائز. من ذلك "مضاعفة السمن عند مخض الحليب، وتيسير خضوع البقرة أو الفرس للإخصاب، وتحبيب الأطفال بالمدرسة، وكفّ الولد عن رفع يده على أخته".
من أشهر هذه الأضرحة في الجزائر "ضريح سيدي أبي مدين شعيب" في تلمسان (700 كيلومتر غرب العاصمة). يحظى بتبجيل السكان المحليين والوافدين والطبقة السياسية. ويتوافد على منطقة العبّاد، شرق المدينة، حيث يقع الضريح بين المدرسة التي درّس فيها ابن خلدون والقصر السلطاني، مئات الزائرين يومياً، بكل ما يترتب على زياراتهم من هدايا تذهب إلى القيّم على الضريح.
يعلن القيّم الذي يقول لـ "العربي الجديد" إنّه من أحفاد الشيخ ويعمل أستاذاً جامعياً، أنّ "الزاوية ليست ملكاً لأحد بل هي ملك لله، يستفيد من خدماتها العلمية والدينية والاجتماعية المحتاجون إليها من الشرائح المختلفة للمجتمع. وما نحن إلا وسطاء بين المحسنين وبينهم". يضيف: "كلّ ما يصلنا من المحسنين يصبّ في ضمان خدمات تحفيظ القرآن وتأثيث وتنظيف المكان والتكفل بحاجات الفقراء والمعوزين".
في السياق نفسه، يقول الشيخ القيّم على "ضريح سيدي أبي راس الناصري" في قلب مدينة معسكر، 400 كيلومتر غرب العاصمة، إنّ من مهامه رفع الأذان، وإمامة الزائرين الذين تدركهم الصلاة في الضريح، ورقية المرضى، وقراءة القرآن على أرواح الموتى. يضيف لـ"العربي الجديد": "ليس لديّ عمل غير خدمة المقام وزائريه ولا أرى حرجاً في الاستفادة من بعض المال الذي يصل إلى يدي برضا أصحابه".
في "ضريح سيدي سعيد" في مدينة مستغانم (400 كيلومتر غرب العاصمة) على البحر، تقول إحدى زائراته لـ"العربي الجديد" إنها تقصده مرة في الشهر. تفسّر: "أصلي لله وأقرأ الفاتحة على روح الشيخ وأطلب من الخديم أن يرقي لي زجاجة ماء آخذها معي إلى البيت، حتى أدهن بها أولادي وبناتي توخياً للخير والبركة والحماية الربانية". وعمّا إذا كان يُفرض عليها دفع مبلغ معين، تقول: "لم يحدث لي هذا، فأنا أعطي الخديم ما تطيب له نفسي، وهو يقبض من غير أن يعاين المبلغ".
من جهته، يقول الشاب وليد (31 عاماً) من ساحة بلدية مستغانم: "لماذا لا تضيف الشرطة إلى مهامها الحدّ من هذه الظاهرة؟ مرّت على رحيل الشيخ قرون، ومقامه جرى ترميمه من طرف السلطات، وهو لا يحتاج إلى أي مال لتسييره. ما الداعي لبقاء شخص فيه يتلقى الهدايا؟". يعلّق: "أجده سلوكاً مرفوضاً وإن كان الدفع اختيارياً".
يسهب في الحديث عن عائلة تشرف على أحد الأضرحة وصلت إلى الثراء والسلطة والنفوذ بسببه، قائلاً إنّ "الأمر لا يقف عند هدايا البسطاء بل يتعداها إلى تسهيلات تتلقاها من الجهات السياسية والإدارية. وقد حصل أحد أبنائها على قرض مصرفي ضخم بات بفضله رجل أعمال في زمن قياسي".