ربح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كثيراً من التحديات في تنظيمه قمة باريس حول المناخ، التي حضرها ممثلو 127 بلداً، فكانت القمة نوعاً من "ضربة معلم"، لهذا الزعيم السياسي القادم من عالم المال.
استطاع ماكرون أن يعقد لقاءً تاريخياً استعد له بلقاءين صحافيين مهمين، مع "سي. بي إس" ومع صحيفة لوموند، قبل أن يلقي خطاباً قصيراً، لم يتردد في الاعتراف فيه بأن البشرية خسرت التحدي، حين قال "نحن بصدد خسران المعركة لحد الساعة والوقت لا يرحم، والتاريخ لن ينسى، إن لم يمكن تدارك الأمر".
ضيوف كبار قدموا إلى هذه القمة، وعلى رأسهم رئيسة الحكومة البريطانية، وغاب عنها آخرون من كبار الملوّثين، كأميركا، التي انسحبت من اتفاق باريس، وروسيا والبرازيل والهند والصين وغيرها، التي بعثت بممثلين من درجات دنيا، فيما لم تحضر المستشارة الألمانية بسبب الأزمة السياسية التي تعصف بالبلد.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه القمة الباريسية التي تأتي بعد سنتين من "كوب21"، التي انعقدت في باريس، وبعد أسابيع فقط من "كوب23"، التي انعقدت في بون، بألمانيا، سيكون على عاتقها البحث عن تمويل، حكومي وخاص، لقمة باريس السابقة.
و"بضربة معلم" أيضاً، أوقع ماكرون الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ورطة، حيث انهالت عليه الانتقادات، خاصة من مسؤولين وناشطين وفاعلين أميركيين، من بينهم وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، الذي اعتبر انسحاب ترامب من اتفاق باريس "قرار تدمير ذاتي تم اتخاذه لهدف سياسي"، كما انضم الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون، لجوقة منتقدي ترامب، فاعتبر أن "قراره قصير النظر من الناحية السياسية، وغير مسؤول من الناحية الاقتصادية، ومغلوط من الناحية العلمية".
وقد قدّم الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي تتهمه منظمات غير حكومية فرنسية، بأنه يعبر عن خطاب مزدوج، المثال الفرنسي على هذا الإسهام بالإعلان عن تقديم مليار ونصف يورو سنوياً، ابتداء من سنة 2020 لدول الجنوب لمساعدتها في الانتقال المناخي.
كما أنّه من الالتزامات المعلنة التي خرجت بها هذه القمة، إعلان البنك الدولي، الذي شارك في تنظيم هذه القمة إلى جانب الحكومة الفرنسية والأمم المتحدة، عن وقف تمويل أي استكشاف واستثمار للغاز والنفط، ابتداءً من سنة 2019.
كذلك، أعلنت "أكْسا" للتأمينات عن تخليها عن تأمين أو استثمار في أي شركة منخرطة في بناء محطات تعمل بالفحم.
وهو نفس موقف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الذي أعلن أن دعم الطاقات الأحفورية، المسؤولة عن قسم كبير من الانحباس الحراري، هو "استثمار في خسارتنا".
وتميّز هذا اللقاء بمبادرات والتزامات ملموسة، منها الوعد الذي قطعه بيل غيتس على نفسه باستثمار 315 مليون دولار في البحث الزراعي، من أجل تقديم العون للمزارعين الفقراء، خاصة في أفريقيا، حتى يتأقلموا مع التغير المناحي. وهكذا سيتم استثمار 300 مليون دولار، ما بين سنتي 2018 و2020 للمساعدة في البحث واختيار بذور الأرز والذرة والفاصوليا المُقاوِمة للجفاف وللحرارة والآفات.
وقد تمخّض عن القمة 12 التزاماً، من قبل دول ومؤسسات مالية ومستثمرين من القطاع الخاص، وشركات، وأثرياء رعاة، من أجل هدف مشترك هو "تعبئة الطاقات والمصادر المالية، عمومية وخاصة، من أجل التسريع في الانتقال نحو نموذج اقتصادي يحتل فيه الكربون أهمية دنيا، في انسجام مع هدف الحفاظ على ارتفاع درجات الحرارة في حدود 2 درجة".
القسم الأول من هذه الالتزامات والمشاريع يهمّ ما يسمى باستراتيجيات التأقلم، والمبادرات والأدوات التي تتيح تخفيف تأثير التغير المناخي على النظام البيئي وعلى السكان. وفي هذا الصدد ستستفيد منطقة الكاريبي من اهتمام خاص بعد خسائر إعصار إيرما، كما أنه سيتم إطلاق برنامجين اثنين لفائدة دول الجنوب، أحدهما بمبلغ 10 مليارات دولار ويخص البلدان والجزر المهددة بصعود المياه، بينما الثاني يروم انبثاق مشاريع إدارة المياه والأراضي في أفريقيا.
كما أن موضوعاً آخر يهمّ حماية الأراضي، وهو ما يعبّر عنه إطلاق صندوق إصلاح الأراضي التي لحقها التلف، وقد أطلقته الأمم المتحدة والصندوق العالمي للطبيعة، وهي منظمة غير حكومية، وتديره "ميروفا"، وهي فرع لمصرف "ناتيكسيس".
إضافة إلى مجموعة من الإعلانات التي ستساهم في تسريع الانتقال إلى اقتصاد لا يعتمد على الكربون، وتجب الإشارة، في هذا الصدد، إلى إصدار تحالفات عديدة بين دول ومدن وشركات لمجموعة من الالتزامات، من بينها الوصول إلى "حيادية الكربون"، وأخرى التزمت بالتخلي، في نهاية الأمر، عن الكربون.
وأخيراً، ثمة إعلانات تقنية، وتهمّ مجموعة من الإجراءات التي ترمي إلى تثبيت الرهانات المناخية في قلب الالتزامات المالية. وهنا تجب الإشارة إلى التزام ثلاثين مصرفاً للتنمية عبر العالم، وعلى رأسها، الوكالة الفرنسية للتنمية، برصّ وتصفيف أنشطتها على الأهداف التي خرج بها اتفاق باريس، أي العمل على أن يكون لالتزاماتها المالية تأثيرٌ إيجابي على المناخ.
وأهمية هذا القرار نابعة من قدرة هذه المصارف على تعبئة ما يقرب من 550 مليار يورو، سنوياً.
الانطباع الذي خرج به الكثيرون من هذه القمة، هو أنها حركت الخطوط الساكنة سياسياً ومالياً، بشكل يختلف عن نتائج القمم الأخرى "كوب 21" و"كوب 22" و"كوب 23" التي ترتكز على مبدأ الإجماع، والذي عزّ حصوله في وقت أصبحت فيه كثيرٌ من الجزر والدول مهددة بالاختفاء، كما قال إيمانويل ماكرون، في لحظة مصارحة .