أكثر فأكثر يغرق الأطفال في ألعاب الإنترنت التي يتبيّن، في أحيان كثيرة، أنّها خطيرة. أطفال تونس من هؤلاء.
لاحظت مريم أنّ ابنها ياسين، البالغ من العمر تسعة أعوام، أصبح كثير الانزواء في غرفته، إذ يقضي أكثر من 10 ساعات متصلاً بالإنترنت في ألعاب لا تخلو من التحديات. وتخبر أنّ اللعبة الأخيرة التي راح يغرق فيها يُطلق عليها اسم "الحوت الأزرق"، وهي "كادت تودي بحياته. فقد تجاوز ابني تحديات عدّة وصار يستمع إلى موسيقى حزينة ويكتب على جسده كتابات غريبة. لكنّني تدخلت قبل فوات الأوان".
ولا يُعدّ ياسين الطفل الوحيد في تونس الذي تأثّر بهذه الألعاب الخطيرة، فمئات الأطفال جرّبوا واحدة من التحديات، على أقلّ تقدير. ويقول مندوب حماية الطفولة التابعة لوزارة المرأة، أنيس عون الله، إنّه "على الرغم من عدم الإعلان رسمياً عن حالات انتحار من جرّاء تلك الألعاب، فإنّ خطرها يبقى قائماً". ويشدّد عبر "العربي الجديد" على "ضرورة التحذير من خطر انتشارها وحماية الأطفال منها"، مشيراً إلى أنّ "لعبة الحوت الأزرق التي تقوم على 50 تحدياً تُنجَز خلال 50 يوماً، واحدة منها". ويشرح عون الله أنّها "تنطلق بلعبة سهلة وبتحديات بسيطة، قبل أن تتحوّل إلى طلبات تجعل الطفل في وضع نفسي سيئ. ومن بين الطلبات الاستماع إلى أغان حزينة وغريبة، والاستيقاظ في أوقات معيّنة من الليل وإرسال أدلّة تثبت أنّ الطفل أنجز المهمة المطلوبة منه. وفي كلّ مرة تزداد وتيرة تلك التحديات وحدّتها لتقوده في النهاية إلى الانتحار".
ويلفت عون الله إلى أنّ "صاحب هذه اللعبة شاب روسي، وعلى الرغم من أنّه مسجون حالياً فإنّ اللعبة التي ظهرت في عام 2016 وما زالت منتشرة. وغايتها هي التخلّص من الأطفال أصحاب الأوضاع النفسية الهشّة". يضيف أنّ "في فرنسا وروسيا سُجّل انتحار أكثر من 150 مراهقاً، وفي الفترة الأخيرة انتحر طفل في الجزائر. وبالتأكيد، فإنّ تونس ليست بمنأى عن هذا الخطر، لذلك استنفرت هياكلها الرسمية المعنيّة للوقاية من المخاطر قبل وقوع المحظور". ويوضح عون الله أنّ "ما يجعل هذه اللعبة خطيرة أنّها في مرحلة ما تتحوّل إلى تهديدات مباشرة للطفل، وعدد كبير من الأطفال يصدّقونها للأسف". ويؤكد أنّ "حماية الطفل لا تكون بحرمانه من الإنترنت، بل بمراقبة هذا الفضاء (الافتراضي)، والانتباه إلى بعض الأعراض التي تطرأ على الصغير، من قبيل العزلة والقيام بتصرّفات غريبة".
ومخاطر الإنترنت، بحسب عون الله "لا تكمن في مثل هذه الألعاب فحسب، فقد وصلتنا أخيراً إشعارات عدّة حول حالات استغلال جنسي عبر الإنترنت، والمتحرّش يقدّم نفسه عادة على أنّه طفل قبل أن يبدأ عملية الاستغلال والابتزاز. وقد أحيلت عشرات الملفات في هذا السياق إلى القضاء". ويتابع أنّ "التهديدات قد تكون من تونس أو من الخارج، لذا تعمل فرقة متخصصة في وقاية الأطفال بالتنسيق مع الإنتربول لرصد بعض الشبكات التي تتحرّش بالأطفال وتستغلهم في تنفيذ سرقاتها وفي معرفة بعض المعلومات المصرفية الخاصة بالعائلة".
في هذا الإطار، حذّرت وزارة المرأة والأسرة من مخاطر الإنترنت، داعية الأهل إلى اليقظة وحماية أبنائهم من مختلف التهديدات، لا سيّما المستجدّة منها والمتعلقة بسوء استعمال وسائل الاتصال الحديثة. ولفتت الوزارة، في بيان أصدرته أخيراً، إلى انتشار ألعاب تهدف إلى تدمير نفسية الطفل ودفعه إلى متاهات قد تنتهي بسلوكيات محفوفة بالمخاطر وحتى الانتحار، مؤكدة سعيها، بكل ما أتيح لها من إمكانيات وبالتنسيق مع وزارة تكنولوجيات الاتصالات والاقتصاد الرقمي، إلى تأمين أكبر قدر من الحماية للأطفال.
إلى ذلك، كانت الوكالة الوطنية للسلامة المعلوماتية (حكومية) قد حذّرت، في بيان أصدرته أخيراً، من انتشار لعبة خطيرة تسمّى الحوت الأزرق أو تحدّي الموت، مشيرة إلى أنّها كوكالة توفّر آليات لمراقبة الأطفال على شبكة الإنترنت. ويوضح رئيس فريق في الوكالة الوطنية للسلامة المعلوماتية، وليد بن سعيد، لـ"العربي الجديد" أنّ "هذا النوع من الألعاب يقود إلى الانتحار ويدفع الطفل إلى القيام بأفعال خطيرة. ومن تلك الألعاب الحوت الأزرق (مذكورة آنفاً) ومريم وألعاب أخرى قد تكون غير معروفة لكنّ تأثيرها كبير على الأطفال". ويقول بن سعيد إنّ "مثل هذه الألعاب تعتمد على المراحل وتستفزّ الطفل لإنجاز التحديات"، لافتاً إلى أنّه من غير الممكن وقف تلك الألعاب تقنياً. فالوصول إليها يكون عبر عشرات الصفحات التي تروّج لها وليست محصورة في موقع واحد".
ويكشف بن سعيد أنّ "ثمّة ما يسمّى اليوم بالإنترنت المظلم، على خلفيّة الصفحات التي لا يمكن تتبعها. بالتالي، فإنّ وسيلة الوقاية الوحيدة هي التوعية. وفي إمكان الأهالي مراقبة أطفالهم وتحميل تطبيقات في الجهاز الإلكتروني المستخدم لمعرفة المواقع التي يدخلها هؤلاء".
في السياق، يخبر الطبيب المتخصص في الأمراض النفسية لدى الأطفال، الدكتور مصدق جبنون، "العربي الجديد"، أنّه عالج "طفلاً يبلغ من العمر 13 عاماً أدمن ألعاب الإنترنت، إلى درجة أنّه كان يقضي أيّاماً عدّة من دون طعام ولا نوم، ولعبته كانت تقوم على أنّه عون (عنصر) أمن يحمي الناس من الأشرار. وبعد مساع عدّة من قبل عائلته لإثنائه عن تلك اللعبة، قرّرت والدته قطع الإنترنت عنه، فدخل في حالة من الاضطراب النفسي الشديد، إذ رأى أنّ عالمه انهار، وأنّ الأشرار تغلبوا عليه وسوف يقتلونه". ويشخّص جبنون حالة الطفل بأنّها "ذهان خطير، نتيجة أشهر عدّة من إدمان الإنترنت، وقد تطلّب علاجه وقتاً طويلاً. وهو بعدما كان متميّزاً جداً في دراسته، سرعان ما تغيّر سلوكه وساءت نتائجه". ويشير إلى أنّ "كثيرين هم الأطفال الذين يدمنون ألعاب الإنترنت التي تؤثّر على نفسيتهم وسلوكياتهم، فيعانون من عصبية شديدة ويتغيّر مزاجهم، لأنّهم يتوهّمون نجاحاً افتراضياً".
ويشرح جبنون أنّ "التأثير الأوّل لمثل هذه الألعاب هو أنّ الطفل لا يعود قادراً على التمييز بين الخيال والواقع. وهذا يشمل الأطفال الذين يقتربون من سنّ المراهقة"، مشيراً إلى أنّ "ألعاباً عدّة تدرّب الطفل على العنف الشديد كسفك الدماء وقطع الرؤوس، فيستمتعون بالعنف الذي يتحوّل إلى عنف ضدّ الذات". ويتابع جبنون أنّه "في معظم الحالات، يسيطر الطفل على أهله، فيتأخّرون في البحث عن علاج، ظناً منهم أنّه لا يوجد أيّ خطر". وينصح كلّ "عائلة تلاحظ أنّ طفلها يقضي ساعات عدّة على شبكة الإنترنت، أن تتدخّل سريعاً وتضع حداً لذلك. ومن المستحسن أن يصار إلى تعويض ذلك الوقت بالرياضة والتركيز على النوم الباكر. وفي الإمكان إتاحة الفرصة له للهو بألعاب الإنترنت في نهاية الأسبوع ولفترة محدّدة مع مراقبته".